17-نوفمبر-2017

فرانشيسكو دي غويا/ إسبانيا

1

أقرّ لأكثرَ من صوتٍ في حياتي، بالفضل في برمجتي على الكتابة السّردية، وقد كنت خاصعًا للشّعر وحده. ويأتي سُوّاقُ سيّارات الأجرة، التي ركبتها إلى مدن الجزائر، في طليعة هذه الأصوات. منهم عمّي بوجمعة البلعبّاسي، الذي كنت أتقصّد الرّكوبَ معه، كلّما سافرت من العاصمة إلى مستغانم.

 

2

على يديه اللتين تسهوان عن المقود أحيانًا، من غير أن تُفْلِتا المركبةَ، تعلّمت كيف يجب على الرّاوي أن يصمت تمامًا، في اللحظة التي ينطلق فيها أحدُهم في التطهر بالسّرد.

 

3

ركب معي في كانون الأول/ديسمبر 1993، شابٌّ سألته، بمجرّد أن رأيته، إن كان عسكريًا. فقد كنت أقبض عليهم بطاقاتهم، وأدسّها في مكانٍ ما في جوف السياّرة، خوفًا عليهم من أن يُعرفوا في الحواجز المزيّفة. لكنّ صاحبنا قال لي إنه طالب في جامعة مستغانم. وقبل أن ندخل خميس مليانة وجدنا أنفسنا، فجأةً، أمام حاجز لشبابٍ ملتحين يحملون سلاحًا.

استوقفوني فوقفتُ، وسألني أحدُهم: "هل معك خرفان"؟ وهي عبارة كانوا يعنون بها في تلك الأيّام شبابَ الخدمة الوطنية. فأجبته في هدوء: "لا أظنّ ذلك". قال لي، بعد أن فحص السيّارة من الدّاخل: "إنّ خبرتك كانت ستجعلك ـ لو وظّفتها ـ تعرف أنّ هذا خروفًا". وأشار إلى الشابّ الذي قال إنّه طالب في الجامعة.

أمره بالنزول فشرع الفتى يتمتم بالشّهادة، وبعد لحظاتٍ قال لي من أنزله: يظنّ أنّ جواربه بعيدة عنّا! كان يُخفي البطاقة العسكرية هناك. دار إليه في سرعة البرق، وخطفه من رجليه فسقط أرضًا، ماسكًا إياه من صدره وباركًا عليه بركبتيه. غمز رفيقًا له، فجرّ عليه بالموس.

سكت عمّي بوجمعة البلعباسي التاكسيور.

لا شكّ في أنه دخل في الحالة من جديدٍ، فعجز عن الكلام، تمامًا كما في الحالة الأصل، ثمّ رفع رأسَه إلينا في المرآة: أتدرون السّبب الذي جعلني لا أنسى ذاك الفتى بالذّات؟ عبارة قالها وهم يهمّون بذبحه: أناشدكم بالله العظيم وبرسوله الكريم ألا تشوّهوا وجهي حتى لا تحزن أمّي أكثر. لكنهم جدعوا أنفَه وأذنيه وشفتيه. أخرج الذابحُ منديلًا من جيبه، ووضع الأعضاءَ المجدوعة فيه: هذه هديتنا إليك لأنك تستّرتَ على الخروف.

 

4

سأحكي لكم هذه أيضًا: في 17 أيار/مايو 1995 حان دوري لأنادي على المسافرين من العاصمة إلى مستغانم. كان النهار ظهرًا، وكان الملل سيّدًا. فقصدتني أربعُ فتياتٍ يرتدين الحجابات، وليس على وجوههنّ ماكياج. طلبن منّي أن أنطلق، لأنهنّ سيدفعن المقعدين المتبقيين فانطلقنا.

كان كلّ شيءٍ عاديًا. وما أن تجاوزنا مدينة البليدة بقليل، حتى نزعن الخمارات وأشعلن السّجائر وشرعن في التصفيق والغناء. قالت من بدت زعيمةَ الموكب: كيف سمّاك الله يا عمّي؟ قلتُ: لا تهمّ الأسماء يا مخلوقة، هل معكنّ حشيش؟ قالت: نعم. قلت: ارْمِينَهُ، فرجال الأمن لا يتسامحون معه، وافعلن ما ظهر لكنّ، فأنا أيضًا أحتاج بعضَ الهبل.

كنتُ يومها مجروحًا بذبح تاكسيور عشنا معًا سنواتٍ طويلةً، وحدثت لي أمور أخرى لا تعجب، فانخرطت معهنّ في الغناء. كنّا نغنّي ونصفّق ونُدَرْبِكُ مثل المجانين. لقد جئن ليتجوّلن في الغرب الجزائري، وحين تجاوزنا وادي رهيو بقليل وجدنا رأسًا معلّقةً في شجرة.

ضاعفتُ سرعة السيّارة، فصرختْ إحداهنّ، كانت تُسمّى حميدة: توقف.. توقف. سانَدْنَها عفويًا في الطلب: توقف.. توقف. توقفتُ فنزلن/ توجّهن إلى الرّأس/ حرّرنها من الشجرة/ رحن يندبنها كأنها لأبيهنّ/ لفّتها حميدة في خمارها/ دفنتها في خشوع/ قرأن الفاتحة عليها/ سأريكم المكانَ حين نصل إليه/ عدن إلى السيّارة ذابلاتٍ، فقالت حميدة: هل انتهت رحمة ربّي في هذا البلد؟ إذا لم يكن له أهل، ألا يبكي عليه أحد؟ قلت: وما يدريك أنه لإرهابي؟ قالت: ما يهمّ أنه لإنسان. وشرعتْ تردّد أغنية "راس المحنة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

هكذا ضربني الرئيس الشاذلي بن جديد

حكاية تحوّل