29-أبريل-2017

مواطنون أمام مركز انتخابي في الجيزة سنة 2015 (أ.ف.ب)

ربما ساهمت الحالة الاقتصادية، وكذلك الأخلاقية، المتردية في مصر في خلق وظائف ومهن قائمة على "الفهلوة" أكثر من أي شيء، وظائف لا تحتاج إلى مؤهلات تعليمية ولا كفاءة عملية بقدر ما تحتاج إلى صقل مهارات النفاق والعيش في فقاعة كبيرة من الكذب المطمئِن. لكن أغرب وأحدث وظائف تلك الأيام الغامضة التي نعيشها، والتي أصبحت منتشرة في المجالين الإعلامي والسياسي، هي ما يمكن أن نطلق عليها وظيفة "المتفائل بالسيد الرئيس". ولمن لا يعرف، فهذه مهنة تدفع عنك أذى كثيرًا وتُلحقك بالزمرة الصالحة من "المواطنين الشرفاء"، ولهذا بات يمتهنها، إما تكليفًا أو تملّقًا، العديد من رجال السياسة، وأقرانهم من وزراء ومسؤولين كبار في الدولة، ومن تبِعَهم في البرلمان وفي الجرائد وعلى الشاشات، وتابعيهم من موظفين صغار وطالبي مناصب.

"ثمة شيء عفن في الدنمارك"، بقليل من التجاوز وكثير من الملائمة يمكن إسقاط هذه الجملة الشكسبيرية الخالدة على الواقع المصري

"ثمة شيء عفن في الدنمارك"، بقليل من التجاوز وكثير من الملائمة يمكن إسقاط الجملة الشكسبيرية الخالدة في مسرحية "هاملت" على الواقع المصري الحافل بأمور "فاجرة" تجري وراء الكواليس وأمام الكاميرات على السواء. واحد من تجليات ذلك العفن مصريًا هو ما يلمسه ويعايشه المصريون يوميًا في متابعة جوقات نفاق المسؤولين.

تجد سياسيًا، كبيرًا كان أم عضوًا في حزب فاشل، يملأ الدنيا تصريحات مفادها التفاؤل بالسيد الرئيس وحكمة السيد الرئيس وقرارات السيد الرئيس وخطط السيد الرئيس، حتى قبل أن يطَّلع على تلك القرارات أو يعرف تأثير تلك الخطط، وكأنه تواصل مسبقًا مع السماء وعَلِم الحكمة الكامنة وراءها والخير الكثير الذي سينتظر مصر، حتى ولو بعد حين من الزمن غير معلوم.

اقرأ/ي أيضًا: "عاوزينه للآخر".. كتائب السيسي الالكترونية تحرجه من جديد

هذا السياسي ومن على شاكلته كثيرون يتركون وظيفتهم الأساسية في تفنيد قرارات الرئيس وسياساته، بل ومنافسته في جو ديمقراطي، ويرتمون عميقًا في أحضان النظام، أمرًا أو تطوعًا، خوفًا من إشهار ذلك الأخير لكارته الدائم واتهامهم بأنهم ضد "مصلحة الدولة"، الدولة التي هانت كثيرًا وباتت مختصرة في شخص رئيسها.

كذلك تجد أغلب الوزراء، ورئيس الوزراء نفسه، تحوّلوا كما لو كانت مهمتهم الأساسية هي نشر التفاؤل بالسيد الرئيس وما يفعله السيد الرئيس، وكأنه لا يأتيه الباطل من أي مكان، وكلما سُئل أحد الوزراء عن خطط معاليه لإصلاح وزارته والقطاع المعنيّ به، يأخذ في استرسال مجاني ومكرر عن عمله وفقًا لتعليمات وتوجيهات السيد الرئيس، وهو ما يعتبره ضمانًا وختمًا بالموثوقية والصحة، لأن الرئيس يعمل لما فيه خير البلاد وصلاحها بكل تأكيد، وما "أهل الشرّ" الذين ينتقدون سيادته سوى شرذمة مأجورة وشاذة تريد تعطيل مسيرة التقدم والرخاء وكل الحاجات الحلوة، التي لا يشارك فيها هؤلاء الوزراء إلا بالابتسامات المحفوظة والتصريحات الرنّانة عن حكمة السيد الرئيس وتوجيهات السيد الرئيس وتضحيات السيد الرئيس، حتى ليبدو الأمر وكأن هؤلاء الوزراء جمهورٌ للرئيس الذي يلعب المباراة لوحده.

تناسى نواب مصر دورهم الأساسي في مراقبة أداء الرئيس وحكومته وإصدار التشريعات، وتحول أغلبهم إلى أبواق تنشر التفاؤل بالسيد الرئيس

أما إذا اتجهنا إلى البرلمان ونوائبه، أقصد نوّابه، فالثبات الانفعالي الذي يحدّثنا عنه معلّقو كرة القدم هو أهم ما يجب أن يتحلّي به المرء في هذه الحال. فالسادة النواب نسوا أن المفترض أنهم مُنتخَبون من الشعب مثل الرئيس تمامًا، ونسوا دورهم الأساسي في مراقبة أداء الرئيس وحكومته وإصدار التشريعات، وتحوّل أغلبهم إلى مجرد أبواق تنشر التفاؤل بالسيد الرئيس وتصدّ هجمات النقد عن "قائد مسيرة التنمية"، وتحوّل البرلمان العريق إلى ساحة خلفية لتمرير كل ما تريده السلطة التنفيذية، حتى لو كان تنازلًا عن أرض مصرية لدولة أجنبية.

وعن العديد من الإعلاميين والصحفيين المتفائلين بالسيد الرئيس، فحدّث ولا حرج ولن تتعب كثيرًا حتى تقع على مطولات مكتوبة ومسموعة ومرئية تبشّرك بالخير الكثير الذي سيعمُّ مصر من وراء كل نفس يتنفسه السيد الرئيس، ولن تتعب نفسك أكثر بالتدقيق في ما يقولونه لأنه متشابه لدرجة تثير الغثيان، فهؤلاء الأقزام دائمًا يرددون عبارات متطابقة كما لو تم توزيعها عليهم من جهة معينة كلّفتهم بنشرها بين الناس.

اقرأ/ي أيضًا: أزمات الفضائيات المصرية.. عرض مستمر

كل هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم كثيرون من أعضاء "جمعية المتفائلين بالسيد الرئيس" يذكّروننا بالعفن المتكاثر في الأرض الطيبة، وكلهم يفعلون ذلك طمعًا في الإبقاء على الحال كما هو، ليس حبًا في السيد الرئيس ولا اقتناعًا به حتى، ولكن لتحقيق أغراضهم وطموحاتهم الشخصية التي وصلوا لقناعة أنه لا سبيل إليها سوى بتأييد مطلق للرئيس وتمجيد قراراته، حتى لو كانت قرارات غير مدروسة أو عواقبها ضد مصلحة البلاد وضد الرئيس نفسه.

ولكن أيضًا، كلهم ملائمون تمامًا للفترة الحالية من تاريخ مصر، التي جلبت لنا رئيسًا للجمهورية لم يملك أي برنامج انتخابي من أي نوع ولم يُكلِّف خاطره في يوم من الأيام بعرض خططه للنهوض بهذا البلد، وكل ما يفعله هو طلبه المتكرر من المصريين بأن "يستحملوا عشان مصر". مصر تستحق أفضل من ذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القاهرة.. من فقراء المدن إلى مجتمعات الكومباوند (1 ـ 2)

القاهرة.. من فقراء المدن إلى مجتمعات الكومباوند (2 ـ 2)