12-أغسطس-2022
ندخل إلى المكتبات راغبين بالكتاب لأنه كتاب (Getty)

ندخل إلى المكتبات راغبين بالكتاب لأنه كتاب (Getty)

1

يحكي فيلم "How much do you love me" (2005) قصة رجل يتعرف إلى بائعة هوى تعمل في حانة مخصصة لبائعات الهوى، فيقرر أن يصحبها للعيش عنده في منزله مقابل راتب ثابت يدفعه لها شهريًا.

ندخل إلى المكتبات راغبين بالكتاب لأنه كتاب، نجوب معارض الكتب لساعات طوال باحثين عن تلك الحميمية التي تضفيها اللمسة بيننا وبين صفحات الكتاب

يتبين لاحقًا بأن هذا الرجل مصاب بمرض يجعل من قلبه ضعيفًا جدًا، لدرجة أنه لا ينبغي عليه بذل أي مجهود جسدي كبير حتى لا يعرض حياته للخطر. وبعد اصطحابه لبائعة الهوى إلى منزله، يدور بين الرجل وطبيبه حوار يستنكر فيه الأخير ما فعله، ويحذره من أنه لن يستطيع مقاومة غواية تقاسيم جسد بائعة الهوى، فشكل جسدها المغوي وتقاسيمه الفاتنة سيثيرانه بشكل يومي، وسيدفعانه إلى ممارسة الحب معها بين وقت وآخر، وهو ما سيؤدي إلى زيادة نبضات قلبه وتسارعها بشكل يهدد حياته.

ومن ضمن العبارات التي استخدمها الطبيب ليصف خطر غواية جسد تلك المرأة عليه وعلى حياته: "هل رأيت جسدها؟ هل تعتقد أن قلبك يمكنه تحمل ذلك؟ كم مرة في اليوم سوف يزيد معدل نبضك الى 140؟ رجل بقلب ضعيف لا يمكن أن يكون مع قنبلة نووية".

دفعني التأمل في كلام الطبيب إلى التفكير في سياقات أخرى لغواية الجسد الأنثوي، وهو ما قادني إلى تذكّر عبارة لسيلفيا بلاث تقول: "أنا جزئيًا رجل، أنتبه إلى أثداء النساء وأفخاذهنّ بعين رجل يختار خليله، لكن ذلك هو الفنان فيّ وهو موقفي التحليلي إزاء الجسد الأنثوي".

تبدو بلاث في عبارتها هذه كمن يعترف ويقر بأن جماليات الغواية في الجسد الأنثوي تأتي أساسًا من كونه موضوعًا يستحق النظر والالتفات والتأمل، وأن فتنة وجمال وتقاسيم هذا الجسد تستحق منا، رجالًا ونساءً، أن نستحيل ونحن نقفُ أمامه إلى فنانين، فنطالعه بعين الفنان الذي يسكننا، وننظر إليه بنظرة دقيقة متفحصة تسعى لإنصافه وإظهار التقدير له عبر التمعن فيه والبحث في جماليات غوايته المخبأة.

2

يورد غوستاف فلوبير في كتابه "نصوص الصبا" قصة بعنوان "غواية الكتب"، يحكي فيها عن رجل يعمل بائعًا للكتب، ويتميز عن غيره بهوسه غير المسبوق بالكتب واقتنائها، الذي يشير فلوبير إلى أنه لم يكن نابعًا من تقديره لما تحتوي عليه من معارف وعلم، ذلك أنه أمي لا يتقن القراءة والكتابة، وإنما من تفضيلاته الشكلية لها، أو من جماليات غوايتها الخارجية التي كانت تفتنه وتجذبه نحوها.

يقول فلوبير: "لم يكن العلم ما يحبه هو، بل شكله وبيانه، كان يحب كتابًا لأنه كتاب، يحب رائحته، ومظهره وعنوانه، كان يستهويه في مخطوطته أنها ترقى إلى تاريخ قديم غير واضح، والأحرف القوطية الغريبة، والزخارف المذهبة التي تغزو الرسوم، وهذه الصفحات المكسوة بالغبار، غبار يستنشق عطره اللذيذ الرقيق بشغف".

يبدو فلوبير في هذه القصة وكأنه يحكي قصتنا نحن القراء الشغوفين بالكتب، الذين قد نختلف عن بائع الكتب ذاك في أننا نتقن القراءة، وأننا نقتني الكتب لنأخذ ما فيها من علم ومعرفة ومتعة، لكننا رغم ذلك نتشابه معه بوقوعنا دائمًا تحت الشرك الذي تنصبه لنا جماليات الغواية الشكلية في الكتب.

إننا ندخل إلى المكتبات راغبين بالكتاب لأنه كتاب، نجوب معارض الكتب لساعات طوال باحثين عن تلك الحميمية التي تضفيها اللمسة بيننا وبين صفحات الكتاب، وقد نشتري الكتب ونكدسها دون أن نقرأها. وكلما تأملناها في رفوف مكتباتنا الشخصية، ننزلها من مكانها ونتحسس جلدها المغبّر بسبب الإهمال، ثم نستنشق رائحة صفحاتها بعد تمرير أيدينا عليها ولسان حالنا يقول: ما أجملك، وما ألذ الخضوع لجماليات الغواية فيكِ، أيتها الكتب الرائعة!

3

أعترف بأنني أسقط صريعة دائمًا أمام جماليات الغواية التي تحتوي عليها عناوين الكتب، إذ لا يمكنني مقاومة بعض العناوين التي توقعني في شباك جاذبيتها، وتدفع بي نحو قراءتها ومطالعة صفحاتها، وهذا تمامًا ما حصل معي عند قراءتي لكتاب بعنوان "كتاب الغواية". فما إن انتهيت من قراءة هذا الكتاب حتى عدت إلى بداياته، إلى ذلك العنوان الذي ذهبت إلى تأمله وكأنني أعيد اكتشافه من جديد.

تأتي جماليات الغواية في الجسد الأنثوي من كونه موضوعًا يستحق النظر والالتفات والتأمل

 

وأعترف بأنني عندما بدأت بقراءة الكتاب لم أهتم بتصفح فهرسه لأعرف موضوعاته، ولم أنقّب في السيرة الذاتية لمؤلفه حتى أبني تصورًا ما حول شكل أو أسلوب محتمل في الكتابة. كما أنني لم أتطلع حين هممت بقراءته إلا إلى العنوان، الذي رأيت فيه مفردة الغواية تنام على سرير الإغراء اللغوي، تبسط أحرفها في شكل جذب خفي يدعو عيني للإقبال والتأمل، وكأنها تدعوني إلى لذة مفترضة سأحوز عليها أنا وكل حواسي ما أن أبدأ بقراءة الصفحات التي تتربع هي في مقدمتهن، وتقف في قيادتهن كالأنثى الواثقة بمكرها وسحرها وقدرتها على الجذب والإغراء.

أقر بأن صورة هذه الأنثى رافقتني وعيني تقع على كل سطرٍ من أسطر الكتاب. كنت أبحث في الأسطر عن لذةٍ مفترضة لنص الكتاب، أوحت لي بها تلك المفردة الأنثى التي تقدمته وعنونته وبسطت نفسها أمامه كإيحاء مؤكد عما يحمله في مضامينه من لذة وإمتاع!