01-مارس-2016

جعفر بناهي

"لا يمكنك أن تصنع فيلمًا إذا بقيت في البيت". جملة قالها المخرج الإيراني جعفر بناهي لإحدى شخوص فيلمه "تاكسي طهران" (الحائز على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين 2015)، تضيء طريق تاكسيه الجوال. ثم أضاف: "كل الكتب التي نحبها قد كُتبت، وكل الأفلام التي نحبها قد صُورت وانتهت". من هنا يمكن للفضول والشغف أن يحرك قلب الفنان ويدفع لرسم وتشكيل رؤية للعالم واضحة، وعلى هذا تكونت مخيلة السينمائي بناهي، متأثرًا بتاريخ وحاضر الصورة والفكرة معًا، وباحثًا كيف يصنع منهما عملًا خاصًا.

 راح الإيراني جعفر بناهي يملأ أول أربع سنوات من عمر سجنه الإجباري بصناعة أفلام على طريقته

هكذا راح يملأ أول أربع سنوات من عمر سجنه الإجباري بصناعة أفلام على طريقته، فبعد أن حُكم عليه عام 2010 بتهمة "البروباغندا ضد السلطات"، بسبب تصويره فيلمًا عن الاحتجاجات التي تلت فترة انتخابات الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد، حكم عليه بست سنوات سجن، ومنع من صنع الأفلام لمدة عشرين عامًا، لكن الحكم تحول إلى إقامة جبرية ومنع من السفر.

اقرأ/ي أيضًا: المغامرون.. في الحياة لا في السينما

رصيده من الأفلام قبل المنع كبير وهام، من "البالون الأبيض" و"المرآة و"الدائرة" وتسلل للعديد من الذهبيات والفضيات. أفلامه التي جعلت منه محرومًا ولكن غني عن التعريف. بناهي صاحب السرد الوثائقي الروائي المحكم، الذي يأخذك إلى مجاهل الحياة البسيطة في إيران ليلتقط معاناة الأطفال والنساء والمهمشين في المجتمع، ويصل من خلالها إلى توثيق مشاهد من تلك الحياة ويضعها ضمن روايته الاجتماعية التي أصبحت منذ عام 2010 محط اتهام وتشكيك.
 
لعل أبرز ما فقدته أفلام بناهي الثلاثة الأخيرة، تلك المجاميع وتلك الحوارات الطويلة والمشاهد الطبيعية في الأرياف. ولكنها لم تفقد بعدها التوثيقي الدقيق الذي بات حاضرًا بثقل في بيته موزعًا بين الغرف والمطبخ وفي المكالمات الهاتفية.

جوائز لأفلام ممنوعة 

قدم بناهي صورًا شتى لحياته اليومية في البيت في فيلم "هذا ليس فيلمًا" (2011) الذي يعتبر أول أفلام ثلاثيته التوثيقية من النوع الخاص، هي ليست أفلام سيرة ذاتية لكنها أكثر المقاطع حساسية في تلك الحياة الممنوعة عن كل شيء، يعتبر هذا الشريط مقطعًا من حياته التي تحولت إلى سجن فعلي داخل البيت، كانت قد فرضت عليه الإقامة الجبرية توًا، فنراه مشغولًا في التفاصيل التي تدور في فلك ذلك القرار. متململًا منفعلًا مشغولًا يائسًا، هكذا يلتقط صور لفراغ البيت وفراغ النفس، راضخًا تحت صخرته وبحركات بطيئة زاحفًا نحو حلم غير موجود.

هل سيسرق مني الأمل؟ سؤال واضح في زحمة ضيقة بينه وبين نفسه والأغراض. يقوم بالتحضير لكتابة سيناريو فيلم، يتحدث على الهاتف، ينظر مطولًا من خلال النافذة حيث لا يعرف عن الخارج إلا الأصوات التي تصله، منتقلًا بين أرجاء البيت الفارغ إلا منه. يتحدث مرةً عن أفلامه السابقة، ومرةً عن أفلام كان ينوي تصويرها قبل صدور الحكم.

"هذا ليس فيلمًا" لجعفر بناهي شهادة سينمائية لما ستكون عليه حال المبدع الممنوع من العمل

هذا حقًا ليس فيلمًا إنما شهادة سينمائية لما ستكون عليه حال المبدع الممنوع من العمل، والتي وصفها بناهي في أولى تصريحاته بعد المنع "حكم عليّ بالسكوت لمدة عشرين عامًا ولكن في أحلامي أصرخ باحثًا عن زمن نكون فيه متسامحين مع بعضنا البعض، زمن نحترم فيه آراءنا المختلفة ونعيش واحدًا من أجل الآخر. في نهاية الأمر يقضي الحكم علي بأن أقضي ست سنوات وراء القضبان. في السنوات الست القادمة سأعيش مع الأمل، بأن تتحقق أحلامي". 

اقرأ/ي أيضًا: إيتوري سكولا المنشغل بالآخرين

لا سبيل للمقاومة إلا العمل، هذا ما أثبته هذا الشريط بعد نيله جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين في 2015، فقد تم التعامل معه على أنه وثيقة بصرية معبرة لنضال خاص جدًا، قادمة من إيران هربًا ومخبأة في كعكة. هذا الصدى الأول الذي تركه المنع في حياته.

لنرى بعدها رؤى أخرى تتبدى في فيلمه الثاني "ستائر مغلقة" (2013) الذي جاء مختلفًا تمامًا عن المضامين الفردية والحديث الدائم عن الخوف والانتظار والتشكيك. عندما أراد الفنان الخروج من فراغه والاختباء بعيدًا، وهو يريد من ذلك الاختباء حرية أكبر، ولكنه ريثما يواجه حبسًا أقسى وأعنف. بناهي يحكي قصة خياله، حكاية المتخيل في قصة رجل يمثل دور بناهي في أكثر يومياته سوادًا، قام به صديقه الكاتب والمخرج الإيراني كامبوزيا بارتوفي. فبعد أن فقد قدرته على متابعة الكتابة بسبب الاكتئاب الذي أصابه إثر الإقامة الجبرية ومنعه من العمل، يضطر للهرب إلى بيته المطل على البحر مع كلبه ويختبآن من الشرطة التي تريد مصادرة الكلب وقتله، تزيد حالة الرجل النفسية تعبًا، ويتزايد خوفه وقلقه مما يدفعه لإغلاق ستائر البيت والاختباء فيه دومًا، فهو لم يعد يستطيع التغلب على السجن النفسي ولن يُخرج نفسه منه.

يقتحم الفيلم شاب وفتاة ويصلان إلى منزل الرجل للاختباء من الشرطة التي تلاحقهما أيضًا بسبب تواجدهم مع مجموعة شباب على الشاطئ، ليصبح الرجل وحيدًا مسجونًا بين الفتاة والكلب، فتزيد هذه الفتاة من خوفه وقلقه تجاه وضعه النفسي والاجتماعي، فهي كالسلطة التي تذكره بأنه ملاحق ومطلوب ما يخلق بعدًا أكثر قتامةً للبيت ولحالة التخفي، يظهر خلالها بناهي من حين لآخر بين المشاهد، فيذكرنا هذا الظهور دائمًا بأن كل ما يجري ليس تخيلًا إنما هو تجسيد حقيقي لتأملاته وهواجسه، ويشكل انهدمًا بين حياته الحقيقية وحياة الرجل الخائف وأحلامه التي لن تتحقق ولن يستطيع التخلي عنها أو إكمالها. يقف بناهي مع فيلمه في مرحلة بين التأرجح لخيار التمرد والانتصار على المنع وبين التوتر النفسي المكرّب الذي يمر به.

كحال فيلمه السابق وصل "ستائر مغلقة" إلى مهرجان برلين مُهرّبًا، وقد حاز على جائزة أفضل سيناريو في المهرجان، حيث يعتبر طرحًا فعليًا لسؤال إمكانية الاستمرار في الإبداع في ظل المنع فحين يتحول البيت والموطن إلى سجن يُجبر المبدع على الإقامة فيه، عندها لا يملك الكثير من الخيارات للعيش.

دائمًا ما تصل أفلام جعفر بناهي إلى المهرجانات مهربة، كحال "ستائر مغلقة" و"تاكسي طهران"

من المتعارف عليه بالنسبة لبناهي وأبناء جيله من السينمائيين الإيرانيين إصرارهم على تركيب مشاهد تتعمّق في البيئة الاجتماعية، ساعين دائمًا إلى تقديم صورة نوعيّة عن إيران، من خلال إعادة سرد حكاياتها الخاصة والتي تشبه من يعيش فيها، وفقًا لنظرة كل مخرج حول ما يجري. 

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Youth".. البكاء على أطلال الجسد

يذهبون بعيدًا في قراءة واقع أو لحظة أو تفصيل، ويبقى الهم الأساسي كامن في صناعة صورة سينمائية مستوفية العناصر بالتساوي مع مقاربة الحكاية. من هنا بدأ بناهي وإلى هنا وصل، فبعد أن خرج من بيته الفارغ وبيته المغلق وبعد فيلمين ثقيلين، أصبح جوالًا في شوارع طهران فقد اختار أكثر المهن بساطة ليجعلها أكثر إشكالية، سائق تاكسي وجامع حكايات، لا سبب منطقي لجمعهما إلاّ أنه تحدث تحت سماء واحدة. 

في البداية حديث عن السرقة يثير القواعد الأخلاقية عند الركاب، فبين شخص يريد معاقبة السارق وآخر يدافع عنه بحجة الفقر والحاجة. لم يفضِ الحديث إلى شيء ولكن الجميع على درايّة بما هو حال الأحكام في نظام الملالي. هذه بداية الغيث كما يمكننا تسميتها، ليبحر بسيارته أكثر سامحًا لعدد أكبر من الركاب بالإبحار معه. فتتشكل مجموعة حكايات صغيرة تحدث في السيارة وأمام الكاميرا المعلقة بجانب المقود والثانية المخفية أمام المقعد الخلفي، لتفعل هذه الكاميرات الصغيرة المخبأة فعل كادر التصوير السينمائي كله.

تشاء الصدف أن يركب معه بعض الذين يعرفونه عن قرب مثل بائع الأفلام المهربّة الذي يلتقط زبائنه بالسر، حاملًا ما لدَيه من أفلام عالمية في حقيبة جلدية يعرف كيف يملؤها دومًا. فقد كان بناهي أحد زبائنه وكان له الفضل بتعريفه على وودي آلان، وبحضور فيلم "حدث ذات مرة في الأناضول" للتركي نوري بيلجي جيلان. 

هكذا تلتقي السينما في الدول المهمشة بسريّة تامة وعن طريق قراصنة هذا العمل. إضافة لشخصية المحامية المعروفة في إيران التي تحدثه عن فتاة مضربة عن الطعام في السجن، تحاول السلطات أن تخفي ذلك الخبر عن العامة، ترخي هذه السيدة ثقلًا كبيرًا على بناهي والفيلم، فتكون إشارة تعيدنا للتفكير بحقيقة المضايقات الفكرية وانعدام الحريات التي أبعدنا بناهي عنها قليلًا ليدخلنا بتفاصيل ركاب التاكسي.

تلتقي السينما في الدول المهمشة بسريّة تامة وعن طريق قراصنة في "تاكسي طهران"

ومن الحكايات الأخرى التي تحدث في التاكسي هي حكاية ابنة أخ المخرج التي ما أن تصعد إلى جانب المخرج حتى تنهمك في تصوير فيلمها القصير الذي طلبته منها المعلمة، والذي يجب أن يراعي الآداب العامة، فتتشكل في الفيلم عدسة أخرى لتحكي حكاية أخرى عن السينما الإيرانية التي بدأت تضيق بالأحكام وكل ما يُفرض عليها.

اقرأ/ي أيضًا: The hateful eight.. سادية ما بعد الحرب الأهلية

لا يخفي بناهي ابتسامته طوال فيلمه فهي مخبأ سري آخر تبعده عن السينما بالمعنى التقني وتقربه من الحكاية بالمعنى العاطفي، وعلى وقع تساؤلات كثيرة فلا أهمية للقيادة في الشارع حيث لا يمكنك أن تقود شيئًا في شوارع طهران، فيصبح هؤلاء الأبطال ووجهتهم هي الحكاية المكتملة للفيلم. 

كل الثقل للكاميرا

كاميرا بناهي المثبتة أمامه على تابلو السيارة أراد لها المخرج أن تحمل بعدًا رمزيًا كبيرًا مختلفًا عن مهمتها التقنية التي هي التصوير وتوثيق الحكايات. فهي موضوعة لتفادي أي سرقة للسيارة، كما يقول لراكبه الأول، ولكن هذه الكاميرا التي تمنع السرقة من شأنها أن تُنهي الفيلم وتسمح له بالاستمرار، لها ثقل كبير على ما يُروى. حتى بعد سرقتها خرج فيلم بناهي للعالم ولكن لم تمر هذه السرقة مجانًا كما لم تمر أحكام المنع بحقه مرور الكرام، فقد تُوجت أقسى سنواته بإنجازات مميزة.

ربما يُراد من ذلك الإشارة لمحاولات التضييق والتعتيم التي يتعرض لها المبدعون من إيران كسرقة حلمه بصناعة الأفلام، هو الذي يحتمي من السارق بكاميرا، ولو سُرقت سيكون هناك فيلم حاضر سيعرض هذه السرقة وسيحمي السينما من السلطة. ممكن اعتبار فيلم "تاكسي طهران" انتصارًا من نوع خاص لجعفر بناهي لما فيه من تحدٍّ لنفسه ولمجتمعه، ففيلم مثل هذا جاء بعد فيلمين مؤلمين ومغرقين في الكآبة والخوف من فقد الموهبة، سيمثل ثباتًا فعليًا لذهنية سينمائية لن تخبو. 

اقرأ/ي أيضًا: 

الفتاة الدنماركية.. أول قصة تحول جنسي

الدّخول المتأخّر وقانون هيتشكوك