07-مارس-2019

حسام بلان/ سوريا

مضت بضع سنين، وأنا أتأمّل صورهم، الأجساد الصّغيرة المغطّاة بالغبار والدّم، دماءٌ أساسها الماء والحليب، ماذا تذوّقوا غير ذلك؟ بعض الباراسيتامول؟ هل كان لهم هذا التّرف لو أنّ حرارتهم ارتفعت أو أصابهم مغص الأمعاء الصغيرة؟

ليس مهمًا أن نعرف ما إذا كان صبيًّا أو فتاة صاحب الجثّة الصّامتة، فنحن لن نناديه بعد اليوم، لن نقول "ما أحلاها ريان بتياب العيد" أو "اسم الله عليه عبودة صاير شب" المهم أنّنا نعرف القاتل، نعرف كلّ شيء عنه، نعرف اسمه وشكله ولون عينيه وزمرة دمه وتاريخ ميلاده، نعلم كلّ شيء ماعدا السبب الحقيقي وراء صموده حتى اليوم وهو يقتل ويعذّب وينكّل ويهجّر على الملأ.

لم أجرؤ على إعادة نشرها، أشعر بالدّناءة حين أُقبل على ضغط الزر، إنّني بنشرها أدّعي انتماءً لألمهم الّذي لم أخبره يومًا، ماذا سيحصل بعد ذلك؟ أيرتاح ضميري وأشعر بالرضا؟ يالرفعة مساهماتي! يالقداسة قضيّتي حين عانيت بضغط زر واحد وصرت جزءاً من الحكاية، سأبدو كأنني أقول "هؤلاء نحن" لكن نحن لسنا هؤلاء مازال لحمنا متكدَّسًا تحت جلدنا، وعظامنا متسلسلة بالتّرتيب الصّحيح، والأطراف كاملة.

أحد الصّور كانت لطفل يرتدي أوڤرول، تمزّقت بضع مواقع منهما الطّفل ولباسه، الأوفرول الجّديد ولاشك، لأنَّ الأطفال ينمون بسرعة! في معظم الأحوال: كغياب القصف مثلًا،أو حين لايهشّم سقف الدّار عظامهم..

لن يُغسل ولن تغضب الأمُّ لأنه ملطخ بالدّم، لن تتمتم بعبارات ساخطة وهي تتفقّد البقع كما كانت تفعل وهي تغسل الثيّاب آخر مرّة، سيمتصُّ التُّراب كلَّ شيء، الدّم، الأوفرول، الجّسد، بقايا الرّائحة اللطيفة الزّكية للرّضيع.

-"لماذا لا يزالون ينجبون الأطفال؟".

-"ماما كانت تعتقد أن الحرب ستنتهي قريبًا، وأنني سأكبر في البلاد الّتي لا يستعبدني فيها أحد، ماما قالت لي أنّها متفائلة بحضوري إلى هذا العالم، وأنّ كل شيء سيصبح جميلًا مثلي قريبًا".

-"الصورة مفبركة".

- "أنا حقيقي! هذه أصابعي التي كنت أحشرها في فمي عندما أشعر بالجوع أو الملل، هذا فمي الذي أحشر فيه أصابعي أو قنّينة الحليب - في حال وجود حليب طبعًا- وهاتان قدماي.. قدم واحدة، وقعت الأخرى على الطّريق، منذ ساعتين فقط كان لي قدمان، وكنت أتنّفس وأبتسم عندما تنظر إليّ أمي، كنت أبكي كثيرًا أيضًا كي أذكّر أبويَّ بوجودي وعندما أبتسم أو أبكي يظهر فمي بدون أسنان، بدون أي سن! ولكن كنتُ سأكبر، كانت ستظهر لي أسنانٌ كثيرة وسأقضم التّفاح والبندورة كما يفعل أبي".

-"الحرب على الإرهاب".

-"تمدّدي هنا مغطى ببقع الدّم وبقدم واحدة أرهب قلوب الجميع، وأنا لم أتذوّق حلوى العيد التّي تصنعها جدّتي ولا مرّة، لم أشتر لعبة من اختياري ولا مرّة، لم أتعلّم لفظ اسمي بعد، الإرهاب أن أُسلب الحياة قبل أن أعرفها أو أن تعرفني".

-"صورقديمة من بلد آخر".

-" كيف يجعل هذا الوضع أفضل؟ الأمر سيان مادام طولي أقلُّ من 50 سنتيمترًا لا يصحُّ أن أكون ممددًا هنا! أنا من "حارم" وهذا أيلول ألفان وسبعة عشر، أنا أعرف جيدًا أنني جئت إلى الحياة في آذار الفائت، فكيف تكون صورتي هذه قديمة!".

يقول السّياسيّون كلامًا كثيرًا، ويتّفقون على مواعيد لاجتماعاتهم، ثم لا يجتمعون، وعند اجتماعهم يتشاجرون على من أخذ الكرسي الأكثر راحة حول الطاولة، وحين ينتهون من الشجار حول مواقع جلوسهم على طاولات "الحوار" يستنتجون أسباب حصول الأمور الّتّي حصلت بعد حصولها ويتوقعون أمورًا لا تحصل، ويمتنعون عن إعطاء أي جوابٍ شاف.

بينما جثث الأطفال، الذين لا يستطيعون الجلوس بعد تتمدّد هنا وهناك، مابين اجتماعات ولقاءات نضيع في أسمائها، تتكدّس جثث يسيل منها الدّم المكوّن من الماء والحليب، لأطفال ليس لهم أسماء في الأخبار والمقالات، لم يعد أيٌّ منهم موجوداً سوى في مخيلة أمّ ترسم ملامح وجه طفلتها عندما تصبح في الثّامنة عشرة، لن تزّوجها، سترسلها إلى الجامعة وتشرب معها القهوة كل صباح وتحذّرها من السيّارات المسرعة، وأمّ تتمنى لو أنّ طفلها لم يصبح عصفورًا في الجنّة، كانت تريده شغبًا في المنزل وضجيجًا في الزّقاق.. تخيط جرابه المثقوب وتتساوم معه على المصروف اليومي فيربح دائمًا.

تلاحقني صورهم وأخبّئها في ملف سريًّ، أنا شاهدة على الأوڤرول المنقّط، الغبار العالق على الرّموش النّاعمة، على الجُّرح في الجّبين، على كف يده المقبوض ضعفًا، على الصفقات الّتي يعقدها آباء أطفال آخرين سيكبرون ليتشاجروا على مواقع جلوسهم حول الطّولات أنفسها.

أمسك أصابعه المَلساء وأقبّلها،

ما زلتَ جميلًا.. ما زلتَ جميلًا..

 

اقرأ/ي أيضًا:

من أنا؟

خرجت عن السرب لكنني لم أغرد

دلالات: