10-فبراير-2020

أنكرت السلطات الفرنسية قمعها للمحتجين رغم الأدلة (Getty)

"عاهاتنا كعبرة!"، هذا هو الاسم الذي اختاروه لتجمعهم الخاص، هم جرحى القمع الذي طال حركة السترات الصفراء، والعاهات التي صارت تلازمهم مذاك عبرة لكل من سولت له نفسه الخروج إلى الشارع احتجاجًا على حكومة ماكرون، والتي كما أبانت أنه ليس لها إلا الآلة البوليسية جوابًا لاحتجاجات الجماهير.

"19 شخصًا وليست إلا 26 عين تنظر إليكم، إذن هنالك مشكل"، يقول جيروم رودريغيز في تصريحه لموقع RTL

هذا التجمع الذي أطلقه 19 جريحًا من السترات الصفراء، كلهم يحملون عاهات الرصاص المطاطي أو قنابل الأمن الفرنسي، يودون من خلاله النضال ضد عنف قوات الشرطة، ومن أجل إيقاف استعمالها الأسلحة الخطيرة لقمع المحتجين، كما كان عليه الأمر طوال خرجات السترات الصفراء.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا كل هذا الحقد الإعلامي على "السترات الصفراء" عربيًا؟

"19 شخصًا وليست إلا 26 عين تنظر إليكم، إذن هنالك مشكل"، يقول جيروم رودريغيز في تصريحه لموقع RTL. جيروم أحد أعضاء تجمع "عاهاتنا كعبرة!"، والذي فُقئت عينه خلال مظاهرات السترات. جيروم ليس الوحيد الذي على هذه الحال،  فيما وعلى بعد ما يزيد عن سنة، منذ أول اندلاع للحركة عبر شوارع فرنسا، تفوق حصيلة جرحى السترات الصفراء الـ 4400 جريح، والقتلى الـ11.

تدمرت حياتي بعد الإصابة!

في مقالٍ سابق، بتاريخ 2 كانون الثاني/يناير 2019، تحت عنوان "Vécu.. إعلام السترات الصفراء البديل في وجه فرنسا الرسمية"، رصد "ألترا صوت" شهادة أنطونيو باربيطا، الشاب الفرنسي الذي تعرض للإصابة في قدمه اليسرى بقنبلة GLI-F4 المحرمة دوليًا، خلال قمع مظاهرة السترات الصفراء بباريس ذات 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.

أنطونيو الذي سرد وقتها لـ"ألترا صوت" تفاصيل إصابته، قال إننا "كنا في مظاهرة في إحدى الشوارع المتفرعة من الشانزليزيه، لمّا هجمت علينا الشرطة الفرنسية بعنف. وبينما نحن نركض في الاتجاه المعاكس، نبهني بعض المتظاهرين إلى أنني أنزف بغزارة من قدمي. لحظتها اكتشفتُ أنني أصبت".

مضيفًا أنه "لمّا حُملت إلى المستشفى تم إخباري بأنني تلقيت قنبلة GLI-F4، نفسها القنبلة التي قتلت سنة 2011 متظاهرًا اسمه ريمي فريس. فرنسا تستعملها لحد الآن ضدنا". وعن القمع الذي واجههم أضاف أنه "كنا متأكدين بأنهم سيقومون بقمعنا، كما سمعنا في الإعلام أن الشرطة ستنزل لمواجهة المخربين، الذين هم نحن؟ أؤكد لكم أننا كنا فقط رجال ونساء فرنسيين يتظاهرون سلميًا من أجل حقوقهم، وهذا ما تمت مكافأتنا به".

بعد سنة من الحادثة جددنا التواصل مع أنطونيو باربيطا، طارحين السؤال: ماذا تغير في حياته بعد سنة من الحادثة؟ ليجيب قائلًا: "حياتي تدمرت كلّيًا، الآن أنا غارقٌ حتى الرقبة في مآسي! ولسخرية القدر خرجت لأطالب بتحسين وضعيتي، فانتهيت إلى زيادتها سوءًا".

فبعدَ الإصابة مكث أنطونيو لمدة ستة أشهر في إجازة مرضية، وبراتب لا يتجاوز الـ 625 يورو شهريًا، علمًا أن إيجار شقته وحده يعادل الـ 600 يورو. "لكم أن تتخيلوا المعاناة!"، يسترسل في حديثه لـ"ألترا صوت"، مضيفًا أنه "كان عليّ أن أدع إصابتي إلى الجحيم وأخرج للعمل من جديد، وإلا كنت سأجد نفسي متشردًا". هكذا عاد أنطونيو لمهنته السابقة كعامل مؤقت في الأشغال العمومية بشركة خاصة، ورغم صعوبة الأمر مع إصابته التي لحد الآن تهدر عليه أيامًا من العمل ولياليًا من الآلام.

قمع عنيف، جرحى وقتلى.. شهادات من السترات الصفراء

في برنامج إذاعي لـ "Radio Parleur" الفرنسي، تتم استضافة جرحى السترات الصفراء. أحدهم كان كزافييه، مدون يبلغ 25 سنة، والذي أصيب في عنقه بالرصاص المطاطي. يحكي كزافيي: "كان الجو ذلك اليوم غائمًا، والمواجهات حامية في ساحة الجمهورية (وسط باريس). كانوا يضربوننا بمدافع المياه والقنابل المسيلة للدموع، ولقد كانت مشاهد حربٍ حقيقية!". وعن لحظة إصابته يقول: "كنت أصور حتى تعطل هاتفي بفعل المياه، حاولت الابتعاد قليلًا عن مناطق التماس، حتى "بام!".. أصبت في عنقي برصاصة. تابعت المشي محاولًا الخروج من سحب الغاز الكثيفة، لأتهاوى بعدها على رصيف الشارع مغمًا علي، لأسمع المسعفين يخاطبونني: سيدي لقد أصبت برصاصة وفقدت كثيرًا من الدم!".

مشاهد العنف هذه كانت السمة التي طبعت تعاملَ الداخلية الفرنسية مع احتجاجات السترات الصفراء، ومنذ أول اندلاعها حصدت هذه الحركة ما فاق الـ 4400 جريحًا، منهم 22 فقدوا على الأقل عينًا واحدة، وخمسة بترت لهم يدٌ. كل هذه الإصابات تمت بأسلحة محرمة دوليًا: رصاص LBD-40 وقنابل GLI-F4.

في تقرير موقع RTL، يقول باتريس فيليب، وهو كهلٌ خمسيني فقئت عينه برصاص قوات الشرطة الفرنسية خلال احتجاجات الحركة، أن "فقدان عين يزيد الحياة تعقيدًا، حيث يجتاحك شعورٌ بالضياع وفقدان الهوية، لا تستطيع حتى أن تطالع وجهك في المرآة ومقابلة ذلك الوجه الذي لم تعد تعرفه". فيليب لم يحرم من عنينه وحسب، بل وحتى من مصدر قوته كسائق شاحنة، يضيف موضحًا أن "تلك الأزمات النفسية التي تخلفها الإصابة لا تضر بالجريح وحسب، بل تصيب محيطه ككل بالإحباط والحسرة".

صورة من تظاهرة جرحى السترات الصفراء، والمتظاهر يحمل يافطة مكتوب عليها: "لقد خسرت ابتسامتي" (فيسبوك)

فيما قضى 11 شخصًا نحبهم خلال احتجاجات الحركة، منهم من لا تزال دماؤهم تلطخ أيدي الشرطة الفرنسية، كحالة زينب رضوان التي فقدت الحياة جراء قنبلة غاز استهدفتها مباشرة في الوجه.

لم تشارك الفقيدة المذكورة، وهي مسنة ذات أصول جزائرية بلغت الـ 80 من عمرها، في أي من احتجاجات الحركة، بل كانت واقفة تغلق نوافذ شقتها بمارسيليا احتماءً من الغاز الذي هوجمت به مسيرة السترات، لتفاجأ بقنبلة مسيلة للدموع ترتطم بوجهها مباشرة، فتلفظ أنفاسها الأخيرة لاحقًا في أحد مستشفيات المدينة.

نفت الشرطة الفرنسية أنه تم الاستهداف المباشر لزينب رضوان، فيما ادعت الخبرة الطبية بمارسيليا أن سبب الوفاة هو سكتة قلبية. وهو ما يتناقض تمامًا مع الخبرة الطبية التي أجراها الطبيب الشرعي الجزائري بطلب من النيابة العامة بالدار البيضاء الجزائرية، والتي تؤكد بعد معاينتها الجثة أنه تم استهداف الضحية بقنبلة مسيلة للدموع، وأن هذه القنبلة هي التي قتلتها. يصرح سامي رضوان نجل الفقيدة: "الشرطة الفرنسية حاولت التملص من مسؤولية هذا الجرم، لكن التقرير الجزائري أوقفها عند حدها!"، مضيفًا أنه "ما نطلبه الآن كعائلة للضحية أن تتحقق العدالة في هذه الجريمة ويتم إغلاق الملف. لأننا نعاني أكثر ما دام قاتل أمي لم يلقى جزاءه".

دموية العساكر وتواطؤ وزير الداخلية

نعم إنه عامٌ كامل من الغليان الاجتماعي الذي تعرفه فرنسا، ولم تكد تنطفئ احتجاجات السترات الصفراء شمعتها الأولى، حتى اندلعت احتجاجات أخرى تقودها هذه المرة النقابات العمالية، مطالبة بإسقاط نظام التقاعد الجديد الذي تحاول حكومة ماكرون فرضه على الشغيلة. فيما لم يكن للداخلية الفرنسية، طوال هذه السنة التي مضت وصولًا إلى اليوم، إلا التوزيع العادل للقمع الدموي على كلا الحِراكين.

عنف لا يفرق بين مسالم ومهاجم، يستهدف الكل وإن كانوا فقط مارين بإحدى المسيرات أو متفرجين من شرفات شققهم، ويضرب بنية إحداث عاهات دائمة. أدلة بأكثر من توثيق، بالصوت والصورة، توضح حقيقة أن ما يقع ممنهج وليس خروقات استثنائية. فيما الإنكار هو الجواب الوحيد للحكومة الفرنسية، وعلى لسان وزير داخليتها كريستوف كاستانير الذي صرح بأنه "ليس هناك أي صور توثق عنف رجال الشرطة!".

نكران تبنته حتى شرطة الشرطة، مكتب التحقيق العام للشرطة الوطنية الفرنسي، والذي مهمته التحقيق في الجرائم التي يرتكبها رجال الأمن الفرنسي. في هذه الحالة وبعد أن لجأ له المعتدى عليهم، أقرت مديرته: "لا يوجد أي دليل يدين رجال الشرطة الفرنسية باستعمال العنف المفرط". لم يتوقف تواطؤ الداخلية الفرنسية مع ذلك العنف بل ثمنته موشحة بيد وزيرها مجموعة من رجال الأمن، خمسة منهم متابعين في قتل زينب رضوان، حسب ما نشر تقرير سابق لـ MédiaPart، بميدالية تقديرية أوجدتها خاصة بهذا الحدث وأسمتها: ميدالية الأمن الداخلي في قضية السترات الصفراء.

GLI-F4.. قنبلة محرّمة تستعملها الشرطة الفرنسية

في أيلول/ سبتمبر الماضي، رفضت محكمة مدينة تور متابعة رجال الشرطة في قضية استعمال العنف المؤدي إلى عاهة مستديمة، تباعًا لشكوى تقدم بها أحد جرحى السترات الصفراء الذي فقد يده بقنبلة GLI-F4. هذا الحدث ينضاف بدوره إلى التواطؤ الذي تحدثنا عنه من قبل، والذي يمد أذرعه بذات الكيف داخل العدالة الفرنسية. ويعيد أيضًا شبح القنبلة الشهيرة، والتي خطت مأساة السترات الصفراء طوال مسيرة القمع الذي تعرضوا له.

GLI-F4، وهو اسم القنبلة المصنعة فرنسيًا من طرف شركة Alsetex، والموجهة للاستخدام خلال تفريق المظاهرات باعتبارها تحوي الغاز المسيل للدموع وقنبلة صوت في نفس الوقت. غير أن احتواءها على مادة TNT المتفجرة، يجعل أثرها أكثر من مجرد تفريق للمحتجين، ويضعها ضمن لائحة الأسلحة المحرمة دوليًا. الشرطة الفرنسية بدورها ضربت هذا التقنين الدولي عرض الحائط، ولاؤزالت مستمرة في التسلح بها في وجه الاحتجاجات. الشيء الذي خلف هذا الكم من الأوجه المشوهة والأطراف المبتورة في صفوف محتجي السترات الصفراء، كما خلّف سابقًا سنة 2011 وفاة الناشط البيئي ريمي فريس

في تقرير صحفي، كشفت جريدة Libération الفرنسية، معالم خبرة تقنية أجراها مخبر IRCGN، مؤسسة الأبحاث الجنائية للدرك الفرنسي، على القنبلة المذكورة. تشير الخبرة بالحرف: "بعد إجراء عشر تجارب متتالية على قنبلة GLI-F4، تبين أن أثرها أكبر مما يذكره المصنع (انفجارية، صوتية، وحاملة للغاز المسيل للدموع)، وأذاها أكثر من أن يتم استخدامها في تفريق المظاهرات. فإثر انفجار تلك القنابل نلاحظ تفرق شظاياها، ما قد يكون سببًا في إحداث جروح خطيرة للأجسام الحية في محيطها". كما أورد التقرير المذكور خبرة أخرى، لمخبر جهاز التحقيق العام للدرك الفرنسي هذه المرة تعود لكانون الثاني/ يناير 2018، أي قبل اندلاع السترات الصفراء، تشدد على كيفية استعمالها "بدحرجتها على الأرض، وتفادي أن تلقى على ارتفاع الجزء الأعلى من الجسم والرأس". هذا ويصنف القانون الفرنسي هذه القنبلة في خانة A2، أي الأسلحة المخصصة لاستخدام عسكري.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات فرنسا أكثر قوة.. تخبط يضرب خطاب السلطة

في كانون الثاني/يناير 2018، وتحت ضغط ما كشفته الخبرات المتتالية للأضرار التي تجسدها قنبلة GLI-F4، دفع المصنّع إلى تبرئة ذمته مراسلًا الداخلية الفرنسية والرأي العام، يعترف بأن للقنبلة "أضرارَ خطيرة تم اكتشافها لكن لم تحلّ بعد”، وبأن تصميمها يحتاج اشتغالًا لتفادي هذه الأضرار والشركة تشتغل عليه، معلنة سحبها من السوق إلى حين إصلاح هذه الأعطاب.

قضى 11 شخصًا نحبهم خلال احتجاجات السترات الصفراء، منهم من لا تزال دماؤهم تلطخ أيدي الشرطة الفرنسية، كحالة زينب رضوان التي فقدت الحياة جراء قنبلة غاز استهدفتها مباشرة في الوجه

في وقت أمطرت قوات الأمن الفرنسية، إلى حدود أيار/مايو الماضي، احتجاجات السترات الصفراء وحدها بـ 1738 قنبلة من هذا النوع، ولا زالت مستودعات الشرطة والدرك الفرنسي تضم 10000 قنبلة أخرى تنتظر الاستعمال. وأمام تصاعد نضال مجموعات الجرحى، ضمنهم "عاهتنا كعبرة!"، والنشطاء الحقوقيين لإيقاف استخدام هذا السلاح، لم تتخذ الداخلية الفرنسية أي إجراء غير إيقاف التزود بشحنات جديدة منها، وتبديلها بأخرى لم تدخل حيز الاستعمال إلى حين نفاذ مخزون الأولى. "فتكثيف استعمالها الأخير دليل على أن الداخلية تصرف المخزون الباقي من هذه القنبلة"، حسب مصدر يورده موقع Médiapart. ويورد كذلك، أن مكتب تحقيقات العامة للشرطة الوطنية الفرنسي جمد كل المتابعات في الشكايات التي تقدم بها جرحى GLI-F4، والتي يبلغ عددها لحد الآن 33.