20-نوفمبر-2020

لوحة لـ فاروق سويارات/ تركيا

منذ صدوره عام 1832، لا يزال كتاب "عن الحرب" لصاحبه الجنرال الألماني كلاوزفيتز مرجعًا نظريًا كبيرًا لفهم طبيعة الحرب من جهة، وعلاقتها الجوهرية بالسياسة من جهة أخرى.

تعود علاقة نظام الأسد بالعنف، ومن ثم بالحرب، إلى اللحظة التي رافقت استيلائه على حكم البلاد ضمن ما أصبح يعرف سوريا بـ"الحركة التصحيحية"

الحرب، وفق كلاوزفيتز، ما هي إلا عنف ماحق، يستجيب لأعمق مشاعرنا العدوانية بقصد إشباع رغبتنا بإخضاع الآخرين لسلطتنا. فنحن لا نقوم بتنظيم العنف وتصريفه وقوننته عبر أدوات التدمير المختلفة، بقصد التنفيس عن مشاعر الغضب التي تتملكنها تجاه الآخرين وحسب، بل بقصد توظيف تلك القوة الساحقة في سبيل إخضاعهم لسيطرتنا المطلقة، فأن نُخضع الآخرين يعني أن نتحكم بهم، أن نستولي على جميع مواردهم، أو أن نروضهم للقبول بشروط عبوديتنا التي سنفرضها عليهم مستقبلًا.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد.. استحالة السياسة

تعود علاقة نظام الأسد بالعنف، ومن ثم بالحرب، إلى اللحظة التي رافقت استيلائه على حكم البلاد ضمن ما أصبح يعرف سوريا بـ"الحركة التصحيحية". فبدون حرب أو عنف منظم أو موجه (المخابرات وفروعها) إلى خصوم محددين (السوريين المراد استغلال جهودهم)، لم يكن بإمكان الأسد أن ينجح بالسياسة التي وضعها لنفسه، والقائمة على التنعم بالعيش على حساب فائض جهد الناس الاقتصادي والروحي. الحرب في دولة الأسد ليست أمرًا طارئًا أو عفويًا، بقدر ما يمكن اعتبارها مكونًا عضويًا أصيلًا في طبيعة نظامه السياسي، الذي يشكل الرئيس المستبد جوهر وجوده. فلكي ينجح الرجل في استدامة نهبه للناس كان عليه أن يستثمر بالعنف الموجه ضدهم، سواء تعلق الأمر بالعنف الذي كانت تديره وترعاه الأفرع الأمنية، المناط بها مهمة شل قدرة الناس على الاعتراض أو الاحتجاج على سياسات نهبها، أو ذلك العنف المستثمر في أداة الحرب الجهنمية (الجيش العقائدي)، الذي خطّط له لأن يكون غضب الرئيس على الشعب.

إن حالة العنف أو الحرب التي شنها الأسد على محكوميه السوريين عام 2011، إثر احتجاجهم على سياسة اللصوصية التي كان يحيا بموجبها على حسابهم، ومن ثم رغبتهم الجامحة بالتخلص من تلك السياسة الاستبدادية، التي لم تصمم إلا لنزع كرامتهم البشرية من صدورهم، لم تخرج في طبيعتها عن العنف الممارس عليهم طيلة حكم الـ 50 عاما الماضية، إلا في طبيعتها الشاملة. فبعد أن كان العنف الأسدي مقننًا في أقبية المخابرات، شاءت الإرادة الأسدية له أن يخرج من حيزه المكاني الضيق، إلى فضاء المدن الكبرى، الذي يميز عنف الحروب القومية أو الأهلية.

لم يكن شعار" الأسد أو نحرق البلد"، نوعًا من الرطانة الأدبية أوالهياج النفسي، الذي قد يصيب مجموعة من الشبيحة أو الأنصار، الواقعين تحت حالة من الهياج العاطفي مع قائد سلطوي، يتعرض حقه الإلهي في السلطة المطلقة لمحنة التشكيك من قبل محكوميين فانيين، بقدر ما كان يعكس ذلك الشعار جوهر سياسة الحرب التي قرر الأسد المضي بها لتأكيد حقه في السلطة، فالحرق في عبارة" نحرق البلد" لا يتضمن حق السيد القانوني بمعاقبة الخارجين عليه بالنار، نار القنابل والبراميل المتفجرة وحسب، بل يمتد ليطال حقه المعنوي في إزاله ذلك العار النفسي، الذي ألحقه به أناس عاديين من منابت وجودية أو اجتماعية وضيعة. فذلك الحق المقدس للسيد لن يطفأ في نفسه، إلا إذا ما تمت إزالة كل ما يتعلق بوجود أولئك الآبقين، من صلة سواء كانت تلك الصلة أو الوجود على شكل اسم أو بيت أو ذاكرة.

اصطدمت سياسة الحرب الشاملة التي شنها الأسد على معارضيه بالتضاد الحاد بين رغبتين، الحصول على الاعتراف منهم بموقعه كسيد، ورغبته بالقضاء المبرم عليهم

اصطدمت سياسة الحرب الشاملة التي شنها الأسد على معارضيه من السوريين بقصد إبادتهم عن بكرة أبيهم، بالتضاد الحاد بين رغبتين؛ رغبته بالحصول على الاعتراف من السوريين بموقعه كسيد، وبين رغبته بالقضاء المبرم عليهم. فلقد ظل الطاغية واقعًا من حيث لا يدري تحت جدلية السيد والعبد، التي يعود الفضل في تجذيرها فلسفيًا للفيلسوف الألماني هيغل. فأن يرغب الأسد بضمان الاعتراف به كسيد من قبل محكوميه أو عبيده، فإنه كان مدفوعًا بواجب الإبقاء على حياتهم، فلا قيمة حقيقية تذكر لسيد بدون وجود عبد يسهرعلى رعايته، كل ذلك دون أن يخطر على بال الأسد السيد، أنه بذلك يحول نفسه بدوره إلى عبد، جراء رغبته الشديدة بإصراره على حكم مجموعة من العبيد، الذين لا حق لهم بالاعتراض أو الاحتجاج. أيعقل أن فكرة السيادة تلك هي من حمت ملايين النازحين في الداخل من بطش النظام، الذي سبق له أن وصمهم بالإرهابين المحتملين؟ أم أن فكرة الحماية تلك، لم تكن سوى استثمار أسدي ذئبي بتحويل كل متواجد في حدود سلطته إلى مجرد أجير في مزرعته الكبرى، بعض النظر عن البيئة التي جاء منها، ما دامه يواظب على تأدية فروض الطاعة التي كلف بها.

اقرأ/ي أيضًا: خطاب بشار الأسد... النور ضد العتمة

لم تنشأ مشكلة اللاجئين جراء اضطرار المحتجين السلميين للدفاع عن أنفسهم ضد عنف النظام، الذي أصرعلى معاقبة كل منهم بالموت الزؤام كما يحاول أن يدعي رأس النظام بذلك، فقضية اللاجئين، بقضها وقضيضها، لم تكن سوى نتيجة من نتائج الحرب الشاملة التي أمر بها وأطلق شرارتها. ولقد عمد النظام من جراء اتباعه لسياسة التطهير الديموغرافي تلك، إلى اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد، فمن جهة أراد أن يوقع الشقاق بين البيئة الحاضنة ومن يدافعون عنها، عبر إقناع ساكني تلك البيئة بأن التهجير والتطهير ما كان له أن يطالهم لولا إصرار البعض منهم على مقاومته، أما من جهة أخرى فقد أراد أن يدمر أية إمكانية لنشوء أي نوع من السلطة السياسية المحلية التي قد تنبثق من الإرادة الشعبية لساكنيها. وبعيدًا عن المكاسب المحلية التي كان يطمح إليها النظام من قضية اللاجئين، فقد اتخذ منها قضية استراتيجية على مقدار كبير من الأهمية، ذلك أنه علق وما زال يعلق كل جهوده، ليجعل منها مدخلًا لاستعادة مشروعيته الدولية التي سبق له أن خسرها بفعل حربه الشاملة على المجتمع.

أثبت الأسد، كما نظرّ كلاوزفيتز في كتابه، أنّ الحرب في خدمة السياسة دومًا، إلا أنه فشل فشلًا ذريعًا في جني ثمارها على نحو سليم، فقد غاب عن باله في وطأة انشغاله بالحرب، تلمّس الفرق بين عملية ردع الشعب واحتواء حركته وعملية الإبادة الشاملة له، وأدى استخدامه للعنف المفرط، بقصد رد الناس إلى بيت الطاعة الأسدية، إلى انزلاقه إلى عملية الإبادة الشاملة التي لم تنجح في تحقيق الهدف الذي كان يعول عليه في تحقيقه، ألا وهو إدامة النهب.

أثبت الأسد أنّ الحرب في خدمة السياسة دومًا، إلا أنه فشل فشلًا ذريعًا في جني ثمارها على نحو سليم

ربح الأسد حربه مع السوريين حقًا، فمن جهة تمكّن من إزالة التهديد الوجودي الذي كان يشعر به إزاء الرفض الشعبي لنظامه المافيوي، ومن جهة أخرى نجح في إعادة ترسيم نفسه كحاكم فرد لا راد لسلطته. لكن الذي لم يحسب له حساب هو وقوعه الفج في الخسارة، خسارة السياسة أو الأهداف التي أطلق من أجلها الحرب.

اقرأ/ي أيضًا: عندما مات حافظ الأسد!

مع تهجيره لملايين الناس من نظام المزرعة التي يديرها، اضطر إلى أن يخسر الناس الذين كان يعتمد عليهم في إدامة نظام حكمه اللصوصي. وكذلك خسارته الفادحة لثقتهم فيه، خاصة بعد أن نجح في ترسيخ نفسه في مخيالهم الشعبي كنظام إجرامي، لايمكن له القيام والتواجد، خارج مفاعيل العنف الأعمى والمقابر الجماعية، التي لن يتوانى عن دفنهم فيها عند أول مطالبة له بحقوقهم. فيا له من نظام قاسٍ ووحشي، لا يمكن له أن يحكم إلا ليظلم، ولا يظلم إلا لينهب، وإن نهب فلا يتواني عن ارتكاب أي أفعال عنفية من فئة الحروب الشاملة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سوريا.. جيش في حماية مكتب الرئيس

صح النوم يا سوريا