01-مارس-2018

أزالت المذبحة السورية القناع المزيف عن أوروبا وكشفت انتكاسها الأخلاقي (عبدالمنعم عيسى/ أ.ف.ب)

نشرت صحيفة الغارديان البريطانية مقالًا للكاتبة الصحفية ناتالي نوغايريد، تتناول فيه أزمة الحرب السورية من جهة تأثيرها على أوروبا، ليس على المستوى السياسي فقط، وإنما كذلك على مستوى القيم المؤسسة للمشروع الأوروبي ما بعد الحرب العالمية الثانية. في السطور التالية ننقل لكم المقال مترجمًا بتصرف.


أزمة سوريا ليست أزمة خاصة بالشرق الأوسط وحسب، بل هي أزمة أوروبية أيضًا، وأسوأ كارثة لحقوق الإنسان في العالم منذ عقود. قد يخبرنا المؤرخون يومًا ما، إلى أي درجة أهدر الغرب فرصة لإجبار رئيس النظام السوري بشار الأسد على الجلوس إلى مائدة المفاوضات، لو كان قد تم الضغط بشكل كاف وفي الوقت المناسب على قواته، لا سيما من خلال الضربات الموجهة، فبهذه الطريقة، اضطر مثلًا سلوبودان ميلوسيفيتش إلى التوقيع على اتفاق دايتون عام 1995، الذي وضعت حدًا للفظائع التي ارتكبت في حق أهل البوسنة.

أهدر الغرب فرص عديدة  لإجبار الأسد على التفاوض، بعدم الضغط بشكل كاف وفي الوقت المناسب على قواته بضربات نوعية موجّهة

وفي صيف عام 2013، أُهدرت فرصة نتيجة للتردد الأمريكي، وإذا فتحت الملفات في يوم من الأيام، قد نعلم أن فشل الولايات المتحدة في وضع خطوط حمراء على استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، هو الذي شجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التدخل العسكري في سوريا دعمًا لديكتاتور يقتل المدنيين منذ 2011.

اقرأ/ي أيضًا: أمريكا تقرر..لا ضربات لبشار الأسد حاليًا

لا يعني هذا أن الذنب أمريكي فقط، أو أن أوروبا بعيدة عن ذلك، فـ"ضبط النفس البريطاني" أو بالأحرى الخذلان البريطاني تجاه ما يجري في سوريا هو سابق لبراك أوباما. وفرنسا التي كانت طائراتها المقاتلة مستعدة للإقلاع في آب/أغسطس 2013، لا يمكن أن تفعل ذلك بمفردها. ومع ذلك، لا تزال محاولة الربط بين الشرق الأوسط وروسيا وأوروبا، وكيفية اختيار الولايات المتحدة لأن تتدخل أو لا تتدخل، هي محاولة مهمة. إن ويلات الحرب في المنطقة المجاورة لأوروبا، والأثر الناتج عن الفوضى في الشرق الأوسط؛ هي تطورات لم يتم قياس أثرها بشكل كامل بعد.

لقى نصف مليون سوري على الأقل مصرعهم، ولا تزال أعداد الضحايا تتزايد. وصحيح أن ضحايا هذه المذبحة في الشرق الأوسط وليس أوروبا، لكننا مرتبطون بهذه الفظائع بطرق تتجاوز قدراتنا على الاستغراب، بينما نجلس لمشاهدة الصور التلفزيونية للأطفال الذين تعرضوا للقصف على أسرة المستشفيات في الغوطة الشرقية.

في ذروة التفاؤل الذي أعقب الحرب الباردة، كان من المفترض أن تكون أوروبا قادرة على تصدير الاستقرار، وبدلًا من ذلك، وفي السنوات الأخيرة، امتدت حالة عدم الاستقرار والفوضى إلى أوروبا من الخارج.

وفيما أن المشروع الأوروبي، قد ولد من الحاجة إلى ضمان أن الماضي لن يكرر نفسه، فاليوم تبدو ألمانيا غير راغبة في الهيمنة في أوروبا، وممتنعة تمامًا عن التدخل العسكري، وبريطانيا وفرنسا وهي القوى الاستعمارية السابقة في الشرق الأوسط، يبدو نفوذها اليوم ضئيلًا.

لسوف تطاردنا الأزمة السورية لفترة طويلة من الزمن. فمنذ السيطرة على الرقة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وطرد عناصر التنظيم منها، تحوّلت الأزمة في سوريا تدريجيًا لما يشبه الحرب العالمية، على الرغم من أن القوى العظمى التي تشارك فيها (روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة) ليست صريحة في حرب مفتوحة مع بعضها البعض، لكنهم يتنافسون من أجل السيطرة على الأراضي.

ويعقد بعض الخبراء مقارنة بين الأزمة السورية والحرب الأهلية اللبنانية التي دامت نحو 15 عامًا. وعليه، تصبح الحرب السورية، وهي حرب بالوكالة، في منتصف طريقها فقط!

أصبحت أوروبا مُهمَلة، بلا موقف مُؤثر بدرجة كبيرة. وإلى الآن، لم نفهم بعد كيف أن الأزمة السورية الكارثية، قد اثّرت على علاقاتنا بالعالم وبأنفسنا وبالقيم التي نعتنقها، فبعد الحرب العالمية الثانية قلنا: "لن نكرر ذلك أبدًا"، ولكن ها هي الحرب تحدث أمام أعيننا، لتصبح سوريا نموذجًا يدل على عجزنا، ونحن من سمحنا بذلك.

لقد باتت سوريا الدوامة التي أمامها تنهار قواعد النظام العالمي بسرعة، وعلينا نحن الأوروبيين أن نهتم لذلك، فأوروبا كانت دائمًا لها مصلحة أكبر حتى من الولايات المتحدة في منظومة الأمم المتحدة. وعندما تنهار القواعد، كما حدث مع عصبة الأمم في الثلاثينات، ندرك جيدًا كيف يمكن للوحوش رفع رؤسها.

سوريا هي الدوامة التي تنهار أمامها قواعد النظام العالمي بسرعة، وهي المكان حيث يربح المستبدون والشموليون الجدد

وكذلك أصبحت سوريا اليوم، المكان الذي فيه يربح المستبدون والشموليون الجدد، حيث بوتين ونظام الملالي الإيراني، فضلًا بالطبع عن الديكتاتور بشار الأسد. وإن لم تكن الولايات المتحدة قد ربحت تمامًا في سوريا، لكن في كل الأحوال لا يمكن الاطمئنان لشخصٍ مثل دونالد ترامب، الذي يدفع الولايات المتحدة لدور مستقبلي أكبر بالتواجد العسكري المستمر في سوريا.

اقرأ/ي أيضًا: "مرحبًا في النسخة الجديدة من سوريا".. تواصل الحرب بصيغة مختلفة 

وعندما تُصبح الأمور بدرجة كبيرة، في أيدي هؤلاء، ينعكس الأمر على أوروبا متمثلًا في ظاهرتين متناقضتين، لكن كلًا منهما تعزز الأخرى، وهما:

الأولى: عودة الانبهار بالرجل القوي الذي لا يرحم. إن اليمين المتطرف لأوروبا، فضلًا عن انتشاره المتنامي في السياسة العامة، فهو أكثر الأرضيات خصوبة لهذا الخط الفكري الذي لا يلقي بالًا للتكلفة البشرية أمام، فالغاية عنده تبرر كل الوسائل، والمدنيون ليسوا مدنيين، وإنما "إرهابيين"، وقرارات الأمم المتحدة ليست قانونًا، وإنما مجرد أوراق وأحبار لتخفيف غضب الليبراليين، قبل أن تعود آلة الحرب والدمار للعمل من جديد، لـ"خلق السلام" الذي يتبين نهاية الأمر أنّه دمار شامل. 

الثانية: اللامبالاة والاتهامات المتبادلة بالنفاق. وهذا موجود لدى اليسار الراديكالي في أوروبا. فمنذ البداية، كان يرى هؤلاء، أن الأزمة السورية أكثر تعقيدًا من إمكانية تحديد حلفاء مخلصين، كما أنهم يعتبرون الغرب جناة في كل الأحوال، وأن تغيير النظام هو أمر سيء، وإن كان من مطالب الشعب، وأن الأزمة ليست إلا صراعًا على حقول النفط، وطياري التحالف الدولي مجرمون مثل طياري بوتين، ولعلهم في هذه الأخيرة على حق بدرجة ما، خاصة وأن التحالف الدولي في المركز الثاني من حيث التورط في قتل المدنيين بسوريا، بعد النظام السوري.

وفي النهاية، ورغم أن الظاهرتين متناقضتين، لكنها يدفعان نحو سلبية أوروبا، وعجزها في مواجهة الحرب الشاملة. وبالرغم من المطالب بضرورة القيام بشيء ما لوقف هذه الكارثة، لكن المجتمعات الأوروبية سقطت فريسة القصور الذاتي والارتباك.

وفي يوم من الأيام، سنحتاج لإعادة النظر إلى الأحداث التي أصبح فيها "مكافحة الإرهاب" وليس "المسؤولية عن حماية المدنيين" هي أولويتنا، وأصبح التدخل لمحاربة داعش مستساغًا سياسيًا، وليس لحماية المدنيين  من المذابح.

تعجز أوروبا عن وقف الحرب السورية بعد سقوط مجتمعاتها فريسة للقصور الذاتي والارتباك وتسربت العدمية لطريقتها في التعامل مع جحيم سوريا

لقد باتت تشكل سوريا مأساة بالنسبة لأوروبا، ليس لأنها أيقظت الغضب الأخلاقي بدرجة ضئيلة، وإنما لأن سياسات أوروبا قد تاثرت بفعل اللاجئين. إن سوريا هي جزء كبير منّا نحن الأوربيين، ليس لأنها انعكاس لصورتنا بعد مذبحة أوروبا في القرن العشرين، كما نود أن نعتقد، وإنما لأننا تركنا جزءً من العدمية يتسرب للطريقة التي نتعامل بها مع الجحيم السوري. لقد اكتسبت أوروبا مناعة ضد الشعور بالعار، وأصبحت سوريا انتكاستها الأخلاقية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حصاد الحرب السورية في 2017.. فاجعة مستمرة ضحيتها آلاف المدنيين

هل تشبه الحرب السورية الحرب الأهلية الإسبانية؟