19-ديسمبر-2019

تحضر عناصر شعبوية في خطاب وشخصية باسيل (Getty)

لا أحد بحاجة لأن "يتحزر" مضمون كلمة وزير الخارجية لتصريف الأعمال، جبران باسيل، في جنيف. السؤال الأساسي الذي سيخطر في بال كثيرين، عن هوية المشتركين الآخرين في أعمال "المنتدى الدولي الأول للاجئين" الذي تنظمه المفوضية السامية التابعة للأمم المتحدة في سويسرا، وإن كانت آراؤهم جميعًا في قضايا اللاجئين، مثل آراء باسيل.

 حديث باسيل عن الحرية والعدالة والمساواة، يمرّ دائمًا بصورة خاصة عن "كيانية" لبنانية فيها مواقع محددة طائفيًا، لإرساء تصورات طبقية محددة أيضًا

الوزير على أي حال، لا يعترف بلاجئين. وقد درج استخدام مصطلح "نازحين" بين مؤيديه، للدلالة إلى اللاجئين السوريين تحديدًا. ولا يخفي باسيل أيضًا، أنه سيطالب بعودتهم إلى بلادهم. لكن الحدث الأول كان قبل الكلمة التي يعرف الجميع مضمونها تقريبًا. فقد أشار الصحافي في "دويتشه فيلله" الألمانية، جعفر عبد الكريم، على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أن "مرافق الأمن الشخصي لوزير خارجية لبنان، انتزع هاتفي مني بالقوة، أثناء محاولتي توجيه أسئلة للوزير".

حتى ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء- الأربعاء، لم نعرف إلى أين وصلت تحقيقات القوى الأمنية التابعة للأمم المتحدة، التي تحدث عنها عبد الكريم. ومثل كثيرين من اللاجئين، لا نعرف أيضًا، كيف يحدث أن يقام المؤتمر باسمهم كلاجئين، ولا يعرفون من يمثلهم. ما نعرفه أن ممثلهم، قطعًا، لا يمكن أن يكون جبران باسيل.

اقرأ/ي أيضًا: جبران باسيل ومأزق المناصفة الإسلامية المسيحية

قد يحسب البعض العداء للاجئين شعبويًا، لكن النعت فيه من الاستسهال، على ذات القدر من أعمال المنتدى نفسه على ما يبدو. هذه الصفات تحتاج إلى تدقيق. وقد لا تكون سويسرا هي الجهة المحببة لوزير الخارجية اللبناني. قبل أسبوعين زار المجر. في 2017، ذهب للغاية نفسها، وراح يفتش هناك، في "المتحف الوطني الهنغاري"، فور وصوله، عن "المسيحيين المضطهدين". يحمل معه هذا الخطاب أينما راح. يسعى لترويج أفكاره عن اضطهاد المسيحيين "في الشرق" أمام "الغرب". يصدف أن حكومة المجر هي الأكثر شعبوية في الغرب.

اضطهاد المسلمين، أو اللبنانيين عمومًا من المصارف ومن النظام، ليس هامًا. بناء الهوية الوطنية يبدو مؤجلًا، خاصةً وأن التيار الذي يرأسه باسيل جزء من النظام، وقد استفاد ويستفيد من الهوية الطائفية. أما حديثه عن الحرية والعدالة والمساواة، فيمرّ دائمًا بصورة خاصة عن "كيانية" لبنانية فيها مواقع محددة طائفيًا، لإرساء تصورات طبقية محددة أيضًا. لكن أفكار باسيل لم تهبط بالباراشوت، وهو في ذلك امتداد لإرث طويل. هذا الإرث الذي يجعل تخيّل الهويّة الوطنية من دون الخضوع لمعايير الغرب وخاصةً في زمنه الكولونيالي أمرًا عصيًا.

جبران باسيل ليس مفكرًا مثل ميشال شيحا. وليس منظّرًا مثله. ولكن آلت إليه الشيحاوية بالتقطير، هو استواء هذه الأصول التي تراكمت في تجربة اليمين اللبناني بأسره، حتى صار جبران باسيل احتمالًا لنموذجها الشعبوي الأول. صحيح أن باسيل، لم يتحدث في هنغاريا عن الجبل والبحر، لكنه تحدث عن لبنان بوصفه الملجأ للأقليات المضطهدة في الشرق، ليس أكثر من استعارة متكررة لنظريات شيحا عن الجبل، وهي استعارة إطلاقية لأن استعمالها في خارج سياقها التاريخي ليس ممكنًا بأي شكل من الأشكال. والعلاقة مع البحر، التي شكلت نافذة أساسية لأفكار شيحا عن العلاقة مع الغرب، تغدو في سلوكيات اليمين اللبناني الأقلوي، دعوة للانبطاح أمام السرديات الغربية عن الآخر في الشرق. في الحقيقة، بالنسبة لكثيرين، لم يكن شيحا مفكرًا رهيبًا، بقدر ما أنه كان انطباعيًا يحاول أن يفكّر. لكن، بطبيعة الحال، جميع السياسيين اللبنانيين الذين استلهموا أفكاره عن "الفكرة الكيانية" للبنان، ليسوا كيانيين حتى، بقدر ما أنهم "سياسويون"، يمثلون حالات محددة من الشعبوية.

للتأكد إن كانت محددات الشعبوية تنسحب على باسيل، بصفته أوضح وارثي "اليمين اللبناني" في حزب منظم وصاحب طموح سياسي معلن، يجب تعريف الشعبوية، أو محاولة تعريفها على مقياس موحد. في الواقع، الشعبوية ليست من أنماط الحكم التقليدية، ولكنها تتصدى للنمط السائد، أو تطرح نفسها كسردية مضادة. وإذا راجعنا النمط السائد، أو الماينستريم، الذي ظهرت "العونية السياسية" في خضهم، مرتين، فلم يكن العولمة، التي تدّعي جميع الحركات الشعبوية في العالم محاربتها. كان نمطًا على نطاق ضيّق.

في المرة الأولى، مثلت الحالة العونية تصديًا لأحزاب الحرب من بوابة المؤسسة العسكرية، ولكن انطلاقًا من إشاعة أفكار مستقاة من الشيحاوية ذاتها التي ألهمت ميليشيات اليمين في الحرب الأهلية اللبنانية، وبمراجعة الخطاب العوني، يتضح دائمًا أن الحديث يدور عن "فرادة" لبنانية، كما لو أن لبنان قيمة وجودية بحد ذاته، والإصرار على انسلاخه عن محيطه العربي يذكّر بحديث شيحا، عن حتميته الجغرافية.

المفارقة أن هذه الفكرة صارت حاجة، بموازاة الخوف من المد البعثي في الجوار. وفي المرة الثانية، ظهرت عودة عون إلى بيروت في 2005 كعودة مؤقته. في الواقع كانت عودة عون صعودًا لباسيل، الذي يرأس حزبه اليوم. صعود يتزامن مع صعود الشعبوية المعادية للآخر في أوروبا، ولا سيما في المجر، أحد أشد النماذج سطوعًا لهذا الصعود، الكاره للاجئين والمحرّض ضدّهم طوال الوقت. واذا استعرنا الدلالات المتفرعة من مصطلح شعبوية حسب رانسيير، فإن المقاربة ستبدو أقرب إلى المنطق، من التحليل المجاني. يتحدث جاك رانسيير عن ثلاث مسارات أو اتجاهات تجمع بين "الشعبويين" أو الذين يطلق عليهم الوصف:

  • أولًا: التوجه إلى قواعد شعبية وإلى العوامل السيكولوجية المؤسسة لثقافة هذا الشعب، قبل هزيمتها أمام العقلانية.
  • ثانيًا: التركيز على خطاب مضاد للعولمة، وعلى استفادة الحاكمين من العولمة، من أجل مصالح خاصة أكثر من المصلحة العامة.
  • ثالثًا: إعادة انتاج، أو محاولة إنتاج، هوية مشتركة تعيد تعريف الآخر أولًا، ثم تعلن عن رفضها له، وفي مرحلة متقدمة تجعله تهديدًا مباشرًا.

لكن هذه ليست ملامح جامعة. ويمكن أن يكون الشعبوي شعبويًا، من دون أن تجتمع فيه جميع هذا الصفات. وبالتأكيد، سيجد المتابع فيها خصالًا باسيلية واضحة. أكثر من أي وقت، يمكن الحديث عن شعبوية جبران باسيل، ليس لمشاركته في مؤتمر الحكومة الشعبوية بالمجر وحسب، بل لأن السلوك الشعبوي يظهر في أوضح معالمه في لحظات الانتفاضة. هناك مفارقة تاريخية أكبر من هذا النقاش بكثير، لكن استعادتها قد تكون مفيدة.  لقد قامت الشعبوية في الأساس، على جمع عدة عناصر ميثولوجية وغير تاريخية، لاختراع شعب، حتى يتسنى اختراع عدو لهذا الشعب، متمثل بالآخر.

وصورة الشعب المخترعة تعود إلى ما بعد الكومونة الفرنسية بقليل، كانت صورة مضادة للصعوة العمالي الأممي. لقد اخترع الشعب واخترعت مصالحه كسردية مضادة لصعود العمال السائرين خلف شعارات كبيرة.

اقرأ/ي أيضًا: جبران باسيل.. بين التسلّق والوصولية والتحريض على الكراهية

اليوم، وفي زمن الانتفاضة، يذهب رئيس الحزب الذي يمثل في موقعه ائتلاف السُلطة اللبنانية (بحكومتها المستقيلة)، إلى سويسرا وإلى المجر، ويتحدث باسم اللبنانيين عن اللاجئين. في سويسرا، اتهمه صحافي بانتزاع هاتفه بالقوة، وطبعًا هذا التصرف، في حال صحته، ليس "ديموقراطيًا". أما في المجر فتحدث عن أفكار من نوع: "بعض ثقافة المسيحيين في لبنان غربي"، وأن "المسيحيين هم الذين رسخوا مبادئ الحرية وحقوق الإنسان". طبعًا ليست هناك أي حاجة للتنبيه بأن المسيحيين اللبنانيين تجاوزوا هذا الخطاب بأشواط، وكانوا حاضرين ومستعدين لبناء هوية وطنية جديدة، انطلاقًا من 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

اضطهاد المسلمين، أو اللبنانيين عمومًا من المصارف ومن النظام، ليس هامًا. بناء الهوية الوطنية يبدو مؤجلًا، خاصةً وأن التيار الذي يرأسه باسيل جزء من النظام، وقد استفاد ويستفيد من الهوية الطائفية

يبدو أن العودة إلى تعريف الطائفية كنظام يحدد وينظم مصالح البورجوازية صار أمرًا واقعًا فرضته الانتفاضة اللبنانية. لكن جانبًا من السُلطة يواجه أزماته الأيديولوجية وليس أزمة الدولة، بالذهاب تارةً إلى سويسرا، وتارةً أخرى إلى المجر!

 

اقرأ/ي أيضًا:

جبران باسيل.. العنصرية ضد السوريين كإستراتيجية

بين الخفة والسذاجة والعنصرية.. علاقة الساسة اللبنانيين بتويتر