08-فبراير-2016

غرافيتي لـ جاك دريدا

الموت لا يستدعي الصمت، الموت يستدعي خطابًا، كلامًا موجهًا لذلك الذي رحل، إليه، إلى شخصه، نصه، أو ما تبقى منه داخلنا، تأملات وأفكار نقدية يقف فيها الناقد الفرنسي جاك دريدا أمام رحيل زميله رولان بارت، ففي محاضرة ألقاها، بعنوان "ميتات رولان بارت"، نقرأ دريدا وهو يَنعي الأخير، مستدعيًا العلاقة بينه وبين أصدقائه وأبناء جيله من النقاد والمفكرين الذين رحلوا.

في "أعمال النحيب"، حاول دريدا دراسة تلك العلاقة العميقة بين الأفراد، ليفهم كيف تبدو بعد موتهم

"ميتات رولان بارت" ليس النص الوحيد، ففي كتاب بعنوان "أعمال النحيب the work of morning" جمع عددًا من محاضرات ونصوص دريدا التي كتبها في نعي زملائه وأصحابه، والتي بدأت بهذا النص الذي كتبه دريدا في 1980 بعد موت بارت بحادث سيارة وهو يقطع الشارع، لنقرأ في الكتاب أيضًا نصوص دريدا عن ميشيل فوكو، ولويس ألتوسير، وسارة كوفمان، وجيل دولوز، وجان فرانسوا ليوتار.

موقف دريدا يبدأ منذ العنوان، ميتات، لماذا الجمع؟ كم رولان بارت مات؟ يجيب دريدا أن رولان بارت ورحيله هو إعادة النظر لما نعرفه عنه، لتفكيرنا عنه، بل ويشكك حتى في الكتابة عنه، هل نحن نكتب عن بارت أم عن انعكاسه فينا، أليست محاولاتنا الاستغناء عن كلماته أيضًا مساهمة في خيانته؟ دريدا يمزج كلمات بارت بكلماته، هو واثق أن كلماته لن يسمعها بارت، إذا هي موجهة لمن؟ ويترك السؤال معلقًا، من هو رولان بارت الآن، ويضيف، "إن لم يعد اسمه له، هل كان يمتلكه قبل موته، أي ببساطة، هل كان بفرادته ملكًا له".

دريدا يقرأ بارت ويستفيض في الحديث عن أهم مؤلفاته كـ"الكتابة في درجة الصفر"، كذلك كتابه الأخير "الغرفة المضيئة "والذي نشره بعد وفاة والدته، التي ترك رحيلها أثرًا عظيمًا في نفس الأخير، ليغوص بعدها دريدا في تحليل الكتاب وعلاقة بارت مع التصوير الفوتوغرافي، واللحظة التي يتم التقاطها، وثنائية الحضور والغياب التي تحضر في الصورة فوتوغرافية، وكأنها لحظة تخزين للحياة وموتها، تحول آني عبر وسيط فيزيائي هو الصورة، فالميتات المتعددة لبارت تقابلها حيوات متعددة ضمن وسيط فيزيائي هو النص، فرولان بارت كنص، كأدب الحداثة على حد تعبير دريدا، يبحث في الأدب على ما لم يعد من الممكن تحقيقه، ويضرب مثالاً كتابه "الكتابة في درجة الصفر، ثم نرى دريدا يعترف "رولان بارت هو اسم صديق، في النهاية، وبعد معرفة محددة به، أقول أني أعرف عنه القليل، وأنا لم أقرأ له كل شيء، وأقصد أني لم أقرأ كل شيء بتمعن، وما إلى هنالك، إلا أن ردي الأول تجاهه كان الحسم، التضامن، والامتنان، ولطالما تساءلت: ما رأيه بهذا، بالحاضر، بالماضي، بالمستقبل، بالظروف الحالية.؟ ولمَ لم يقله، إذ كان من الممكن أن تفاجئه هذه الأسئلة بلحظة الكتابة.

حسب دريدا، الميتات المتعددة لبارت تقابلها حيوات متعددة ضمن وسيط فيزيائي هو النص

يعتبر كتاب دريدا، أو بصورة أدق الذي جُمعت فيه نصوص دريدا عن المرثيات والنحيب، استمرارًا لكتابه "سياسة الصداقة" لدراسة تلك العلاقة العميقة بين الأفراد، إذ يطرح في نعيه تساؤلات عن مدى استمرارها في حال الموت، الغياب، كيف نوجه كلماتنا لمن هم رحلوا، لن يسمعوها، ما الجدوى منها، ولم نكتبها أصلاً.

كتاب دريدا السابق مثير للاهتمام فهو بعيد عن الكيدية والتجريح، هو محاولة لإعادة قراءة تراث نقاد القرن العشرين في حضرة موتهم، "بعد موتهم مباشرة" على حد تعبيره، بعين الناقد من جهة والصديق من جهة أخرى.

ولا يخلو الأمر كعادة أغلب مؤلفات دريدا من الصياغة المعقدة، الأفكار والجمل التي تدور حول فكرة غير موجودة، حول اثر خفي تتم الإشارة له، ويساهم دريدا في انمحائه، وكأن الكتابة نفسها عن شخص إسهام في "مَحيِه" ليبقى ما يمثله لدينا فقط، رؤيتنا الذاتية، وكأن كل فعل كتابة أو قراءة هو فعل خيانة، اجتراح لمعنى مرتبط بـ(الأنا)، لا بالآخر حيًا أو ميتًا، وهذا ما يناقشه دريدا في مقاربة لعبارة "أنا ميت"، لا يمكن للشخص أن يعلن موته، فأنا تستدعي الحضور، أما حالة الموت أو وضعية الموت تعني الصمت النهائي، عبارة أنا ميت غير منطقية، فالأنا هنا تحيل إلى النفس التي لم تعد موجودة ولم تعد قادرة على إدراك حضورها لأنها ماتت، فنحن نفكر بالجسد بوصفه قيمة لغوية، وموت هذا الجسد، يعني الصمت.

اقرأ/ي أيضًا:

تشيخوف.. تداعيات شخصية

"ذكريات من منزل الأموات".. ديستوفسكي سجينًا