في كتابيه "نداء الشعب: تاريخ نقدي للأيديولوجيا الناصرية" و"الزحف المقدس: مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر"، يحلل الباحث المصري شريف يونس ثورة تموز/يوليو 1952 في مصر وما تبعها من أحداث وتحولات كبرى. وباسترجاع هذين الكتابين، يمكن استعادة تاريخ مصر الحديث وقراءة الحاضر أيضًا.
بل إن حركة التاريخ في ذلك الوقت ليست بعيدة عن حركته الراهنة، لا سيما بالنسبة إلى ما يحدث في سوريا من حيث البنية العميقة. إن قراءة بعض مفاصل تموز/يوليو 1952، من تشكّل الحكم وخطابات السلطة إلى "الزحف المقدس" حول جمال عبد الناصر، توحي ببدايات تشكّل حركة مشابهة في سوريا، وإن اختلفت آلياتها ووجهاتها التمثيلية. ومع ذلك، فهي تقترب بشكل تدريجي من إعادة إنتاج السيناريو المصري، لا سيما في اصطلاح "الزحف المقدس"، وترسيخ صورة فردية للمخلِّص، أحمد الشرع، بوصفه وجه سوريا الجديدة القادمة.
تعريف النفس بالأعداء
استيقظ الناس صباح 23 تموز/يوليو 1952 في مصر على بيان للإذاعة يعلن أن الجيش قد استولى على السلطة. مجموعة صغيرة من الضباط الشبان، لم تتجاوز رتبهم الملازم والبكباشي (العقيد) نفذوا انقلابًا عسكريًا ضد الملك.
إن قراءة بعض مفاصل تموز/يوليو 1952، من تشكّل الحكم وخطابات السلطة إلى 'الزحف المقدس' حول جمال عبد الناصر، توحي ببدايات تشكّل حركة مشابهة في سوريا، وإن اختلفت آلياتها ووجهاتها التمثيلية
وبعد أشهر، ألغى الضباط دستور 1923 وحلوا الأحزاب. وقبل أن يمر العام نفسه، ألغوا النظام الملكي وأعلنوا قيام جمهورية برئيس غير منتخب. وبحلول عام 1955، كانوا قد قضوا على جميع القوى السياسية وشبه السياسية، مثل الإخوان، أو طردوها من المجال العام، الأمر الذي أدى إلى تغير جذري في بنية الحكم في البلاد.
ويمكن القول، بإيجاز، إن تنظيم الضباط الأحرار كان مع تسييس عام للجيش، لكنه رفض ارتباطه بتوجه سياسي معين، باستثناء وطنية عامة كارهة للملك والاستعمار. ومن هنا كان شعارهم دائمًا، من البداية وحتى بعد وصولهم إلى السلطة، هو رفض التعددية السياسية. فالتنظيم لم يُبْنَ على أي فكرة سياسية محددة، بل كان أشبه بجماعة تعرف ما لا تريد أكثر مما تعرف ما تريد. ولم يكن الحكم بالنسبة لهم سوى وسيلة لتحقيق أهدافهم، مدفوعين بإحساس الواجب، وبأن ما يقومون به هو رسالة وطنية عامة ترفض الحياة السياسية القائمة.
والواقع أنه إذا لم تكن الوحدة السياسية ذات طابع أيديولوجي، بل وطنية بصفة عامة ومتعددة الميول والاتجاهات، فإنها تميلُ إلى تعريف نفسها من خلال أعدائها أكثر من أهدافها. وهذا ينطبق اليوم على السلطة الجديدة في سوريا، إذ تعرِّف نفسها بناء على أعدائها، ويبدو أنها تعرف ما لا تريد أكثر مما تعرف ماذا تريد.
كانت الصياغة التي تبدو إيجابية لهذا الموقف السلبي هي "الوقوف مع الشعب" ضد جميع من لا يمثله. شعبٌ عامٌ، مجردٌ، وافتراضيّ في حالته الخام. وهذه الوحدة حول شعبٍ افتراضيّ غير محدد سيتم التعامل معها على أنها وحدة مع شعب جاهل يحتاج إلى تربية سياسية، ولا يعرف كيف يمثّل نفسه، الأمر الذي يستدعي تدخل الضباط لتولي عملية تهذيبه بل وإعداده نفسيًا وسياسيًا.
وقد تحقق الشق الأول في سوريا، إذ يبدو من خطابات السلطة الجديدة أنها تُعامِل الشعب السوري على أنه وحدة عضوية خام، غير محددة، ولا تظهر سلبيات هذا الخطاب بقدر ما تظهر إيجابياته، لأنه خطاب عام وشامل.
تخوّفات سورية من سيناريو مصر 1952
كان تصوّر الضباط لدورهم على أنه دور إصلاحيّ محدود، يعودون بعده إلى ثكناتهم. لكن الأحداث دفعت بهم، وبترحيب وضغط من معظمهم، نحو الثورة، أي نحو تأبيد حكمهم. وعلى هذا النحو أُعْلِنَتْ الثورة في كانون الأول/ديسمبر 1952م – كانون الثاني/يناير 1953 تتويجًا لشوطٍ كبير قطعه الضباط بإلغاء الدستور وحلّ الأحزاب السياسية، ليتم حسم الصراعات داخل الجيش وتوجيهها نحو وجهة واحدة.
كان تصوّر الضباط لدورهم على أنه دور إصلاحيّ محدود، يعودون بعده إلى ثكناتهم. لكن الأحداث دفعت بهم، وبترحيب وضغط من معظمهم، نحو الثورة، أي نحو تأبيد حكمهم
وقد كان مغزى هذا التحول هو استكمال تطهير المؤسسات من "أعداء الثورة"، بدءًا من الجيش الذي كان منقسمًا بشكل ظاهر لكنه غير مؤثر في مجرى الأحداث، إلى أجهزة الدولة، وانتهاءً بالمجال العام. وكان معنى ذلك تطهير البلاد بمجملها من السياسة وغلق مجالها العام.
ولأنه لا يفلّ السياسة إلا حالة الطوارئ، فُرضت الأحكام العرفية، حيث ساد المنطق الأمني، بمعنى تحقيق أمن النظام هو الحاكم في طبيعة القرارات، لهذا كانت القرارات تأتي دائمًا مفاجئة، ويتم الإعلان عنها ثم يجري تبريرها، ولا يدلُّ صدورها دومًا على أنها ستُنفّذ ولا حتى على سرعة تنفيذها، والأهم أنها حتى إذا نُفّذت، فإنها لا تدل على الخطوة التالية.
كان للانتقال من الانقلاب إلى الثورة معنى واضح: انتهاء أي أمل في ديمقراطية تأتي عن طريق الضباط، فقد أصبح الاتجاه الديكتاتوري واضحًا، حيث أخذ عبد الناصر يعبّر علنًا عن نيته في الاستمرار في السلطة وفقًا لبرنامج أوسع بكثير، فأعلن، مثلًا: "أنه لا يمكن رفع الظلم عن عشرين مليون مواطن في سبعة أشهر، إننا في سبيل القضاء على الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي وأمامنا العدو الأكبر الاحتلال البريطاني".
ثم أعلن بعد عدة شهور أخرى: "نحن ما زلنا في بداية الطريق، ولعلني لا أبالغُ إذا قلت إننا لم نحقق سوى جزء بسيط من البرنامج (غير المعلن) الذي وضعته الثورة للنهوض بالشعب، لا نستطيع أن نخلق كل شيء في عام واحد". إذن، لقد وضع الضباط على عاتقهم خلق "كل شيء"، ولكن هذا الخلق السياسي أو النظامي الجديد كان يواجه عدة عقبات من الواجب تطهيرها.
وبحصر سمات هذا النظام الجديد الأساسية، نجد أن البلاد واجهت بحلول الانقلاب سلطة عسكرية إصلاحية مستقلة سياسيًا (عن أي حزب أو جماعة) وجماهيريًا (عن النقابات)، وظل هيْكلُ القوة السياسية الجديدة كِيانًا مستغلقًا أمام مختلف القوى الاجتماعية حتى وُصِفَت حينها بأنها "الجمعية السرية التي تحكم مصر".
ومع رسوخ أقدامهم في السلطة واكتشاف مدى هشاشة النظام القديم، تزايدت رغباتهم في ممارسة الدكتاتورية بدافعٍ وطني، ومن الطبيعي أنهم طرحوا سلطتهم باعتبارها سلطة الشعب ككل. وبالتالي، لا تتحقق سلطة الشعب وحريته ومصالحه وأمنه إلا بضمان حرية الضباط الأحرار، أي انفرادهم بالسلطة. وكان هذا الانفراد المطلق بالسلطة جسرًا لا بد أن يعبر عليه بحيث يتحرك الشعب ككتلة صلبة واحدة ممثلة في الضباط.
كان للانتقال من الانقلاب إلى الثورة معنى واضح: انتهاء أي أمل في ديمقراطية تأتي عن طريق الضباط، فقد أصبح الاتجاه الديكتاتوري واضحًا
وبعد أن طلبت النخب السياسية المدنية أن يتم تمرير السلطة للمدنيين - وهو ما وعدت به أولى بيانات مجلس قيادة الثورة - تم الالتفاف عليه ليكون الضباط وحدهم هم المسؤولون عن قيادة هذه الجموع بل والتحدث باسمها واحتكار هذا الحق، في فكرة مفادُها أن رؤية الضباط عن الشعب ومصالحه هي بحد ذاتها معيار مصلحة الشعب وأساس سيادته. أما القطاعات التي ترفض هذه الفكرة، فلا تمثل الشعب بالضرورة، فهي ليست إلا قطاعات مخدوعة عن نفسها، وبالتالي يحتفظ الضباط بفكرة تمثيل الشعب، وجاء عهد الضباط بمقولات مثل أن: "الشعبَ لم يكن يعلمُ الحقائق التي تُمكِّنُه من الحكم، ولم يكن يذهبُ باختياره لصناديق الانتخابات، وأننا نريد الشفاء الكامل من كل الأمراض التي أضعف الاستعمارُ بها كياننا الاجتماعي والسياسي".
الشعب هو الثورة، وانتهاء الثورة يعني انتهاء الشعب
وعلى هذا الأساس، تم فرض شرعية السلطة الجديدة بالحطّ من قدر الشعب كمبرر للوصاية عليه، وبناءً عليه. يمثِّلُ الضباط الشعب كالتزامٍ أخلاقيّ، لأن دورهم هو تربيته وشفائه من عيوبه الأخلاقية وإرشاده ومنعه من إلحاق الضرر بنفسه، حتى تتم عملية الشفاء وينضج ويصبحُ قادرًا على استلام السلطة بنفسه، لإقامة "الديمقراطية السليمة".
وقد نجح الضباط، في رأي عبد الناصر، في تربية الشعب، لكنه مع ذلك لن يتسلم "الأمانة"، بل سيسير بإرادته مُعبَئًا في "كتلٍ متراصّة" بعد أن تُمثَّلَ رؤيتُهُم تحت شعار الاتحاد القومي. وكنتيجة للتعقيم السياسي الذي انتهجه الضباط باسم الشعب، فقد تم التحكم في المرشحين لانتخابات البرلمان بالشطب أو العزل، وعلى لسان وزير الأشغال يتم زج اسم الشعب مرة أخرى وكأنه صاحب القرار، فيقول: "إن الدستور (دستور 1952) أراد أن يجنّبك أيها المواطن شر نفسك، بأن خلق لك الاتحاد القومي الذي سيجنّبك الضعف، بأن يُخليَ لك الطريق من جميع الانتهازيين والمخادعين، لقد كفل لك الدستور جميع الضمانات لكي تُحْسن اختيار ممثّليك".
وبالتالي، كانت النتيجة المنطقية الأكثر خطرًا وشرًا على لسان ناصر: "إن الثورة باقية ما بقيَ هذا الشعب، وإن الشعب باقٍ ما بقيت هذه الثورة، فإذا قلنا أو تخيّلنا أن هذه الثورة قد انتهت؛ فمعنى هذا أن أهداف الثورة قد انتهت، وبالتالي معناه أن الشعب قد انتهى". فالاختيار بين نظام الضباط وأي نظام سياسي آخر هو اختيار بين الحياة والموت.
وهكذا اعتُبِر أن الشعب قد وُلِدَ من جديد مع ثورة يوليو، وأُطلِقَ على هذا الحلم الذي حققه الضباط مسمى "الزحف المقدس"، وهم الأفراد الذين لا يربطهم ببعضهم البعض غير صوت القائد وهو يأمرهم بالزحف، كان ذلك المفهوم العسكري هو حلم الضباط ومشروعهم السياسي، وما إن تحقق حتى تم تفكيك كل التجمعات السياسية، والاجتماعية وإخضاعها لقبضتهم، من جمعيات أهلية أو نقابات عمالية ومهنية، وأندية رياضية أو اجتماعية، ثم الإقناع بهذه الرؤية كمَثَل أعلى عبر الآلة الإعلامية والدعائية التي كانت تزداد انتشارًا ولم يصبح أمام هذه الذرات المفردة من الشعب إلا السكون، أو القبول بهذا المنطق الاستبدادي.