27-سبتمبر-2018

إحدى تظاهرات الثورة في العاصمة يريفان (أرتوم كيدوكيان/Getty)

 بتتبع  بداية الثورة التي أطاحت بالدكتاتورٍ الأرمينيٍ من السلطة، واستبدلتهُ بمؤسسِ صحيفة معارضة. يتضح أن الأمر بدأ بمظاهرات جماهيرية عارمة، ولو أن تلك المظاهرات سُحقت حينها، ما كان أحد ليتذكرها اليوم. إلا أن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنها اتسمت بالسلمية الكاملة. جدير بالذكر أيضًا أن تلك الثورة اندلعت في إحدى دول الاتحاد السوفييتي السابقة، أي في الفناء الخلفي لقدوة الشعبويين وقمع الديمقراطية الأكبر فلاديمير بوتين. بكيف سارت الأحوال مع الحراك الذي أطلقه المعارض المتواضع نيكول باشينيان وما المآلات المرتقبة والموازية لآرمينيا عقب محاولة الجمهور رسم واقعه بعيدًا عن الهيمنة الروسية والارتهان الأمريكي. هذا ما تحاول هذه الوقفة  للمراسل الدولي أندرو ماكغريغور عبر صفحات مجلة لوس أنجلس ريفيو للكتب أن ترصده، وهو ما ننقله معربًا وبتصرف في النص التالي: 


بالطبع لم تغطِ القنوات التلفزيونية الاخبارية المصرح لها من قبل الدولة هذه المظاهرات، وكانت تغطية الصحافة الدولية متأخرة ومبعثرة. لكن المتظاهرين صوروا أنفسهم من خلال البث الحي على موقع فيسبوك لتحصين أنفسهم ضد موجةِ قمعٍ؛ لم تأتِ أبدًا.

تولدت الثورة الأخيرة عن تاريخ أرمينيا ووضعها المزعزع في مواجهة جيرانها العدائيين، بقدر ما تولدت عن استبداد ساركسيان

 في النهاية، سوف تبث وسائل الإعلام الدولية الكبرى ملخص "ما حدث" في الثورة، وسيصبح من المعروف والمقبول أن يصبح قائد المعارضة القادم من المجهول نيكول باشينيان /Nikol Pashinyan رئيس الوزراء الجديد، والذي انتخب فقط بعد أن تراجع سيرج ساركسيان/ Serzh Sargsyan، الذي أنهى أقصى مدة مسموح له فيها بالبقاء في منصب الرئيس وهي فترتين رئاسيتين، عن سعيه للبقاء في السلطة، لكن هذه المرة في مقعد رئيس الوزراء، وهو المنصب الذي تمددت صلاحياته بانتظار الوقت الذي سيحوز فيه الكرسي. في 23 نيسان/أبريل 2018 بعد أيامٍ من الاحتجاجات، استقال ساركسيان من منصبه مدليًا باعتراف استثنائي؛ قائلًا "لقد كنت على خطأ وكان نيكول باشينيان محقًا".

اقرأ/ي أيضًا: ثورة أرمينيا السلمية.. الانتفاض ضد وكلاء موسكو دون الحرب عليها!
 
لكن الرواية الرسمية بدت غير كافية وعاجزةً عن وصف ما حدث حقًا. أرقتني كيفية قيام هذه الثورة وسببها، لذا شددت رحالي إلى عاصمة البلاد يريفان لفهم سلسلة الأحداث التي وصفت بأنها "ثورة أرمينيا المخملية"، و "ثورة الحب والإخاء".
 
يريفان عاصمة قومية صغيرة بشكل يثير الدهشة، زاخرة بالمنحوتات والتماثيل العامة، وبها دار أوبرا ومسارِح للعرائس ومطاعم فاخرة باهظة الثمن ونوادٍ للتعري وصالات للملاكمة، ونواد للشطرنج وحانات حديثة لاحتساء النبيذ وحديقة لطيفة وكلها على مسافة 10 دقائق سيرًا على الأقدام من بعضها البعض. الأبنية غير مطلية بشكل عام. والنمط المعماري الزاهي الذي يعم المدينة يتكون من جدران مبنية من حجارة أحادية اللون.
 
 ألقت مجازر العثمانيين عام 1915 بالأرمن إلى أتون شتات عالمي. من بين 8 ملايين أرمني يعيشون في جميع أنحاء العالم، يقطن 3 ملايين منهم فقط أرمينيا. ناهيك عن سيطرة تركيا على جبل أرارات الذي يقع على مرمى البصر من يريفان. كان أرارات  موضوعًا رئيسيًا للفن والثقافة المحلية وكذلك رمزًا مستخدمًا في التسويق للسجائر والبنوك ومشروب البراندي/ الكونياك الأرمني الشهير، هذا بالإضافة إلى  التكهنات القديمة الراسخة التي تزعم بأنه كان مرسى سفينة نوح.  لا تستطيع سوى قريحة الشعراء التعبير عن المعنى الذي يمثله أرارات حقًا، لكن مجرد الحديث عنه يولد رد فعل حزين ومشْبع بالأمل في آن معًا.

تفضي إحدى النظريات بأن روسيا كانت مشغولة بسوريا وأوكرانيا أكثر من طاقتها على القيام بتدخل خارجي آخر ما أتاح للحراك الأرميني أفقًا فعالًا

في الشرق تقبع آذربيجان، البلد التي خاضوا ضدها حروبًا ومناوشات وصراعات منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. ومع وجود مذبحة تاريخية في ناحية وعدو مسلح في الناحية الأخرى؛ برزت الروح القومية والتلاحم الثقافي بجلاءٍ في المظاهرات الأخيرة ضد الدكتاتور.
 
تقبع جورجيا على الشمال من أرمينيا، والتي تشاركها حدودًا آمنة ومسالمة. ومن وراء جورجيا تطل روسيا، والتي أصبح غيابها الجلي إبان الثورة مثارًا للتكهنات. لماذا لم تمزق مخالب الدب الروسي "ثورة الحب والإخاء"؟ تفضي إحدى النظريات بأن روسيا كانت مشغولة بسوريا وأوكرانيا أكثر من طاقتها على القيام بتدخل خارجي آخر.

 
تظهر صور الثورة رجال الدين وأفراد الجيش وهم يسيرون جنبًا إلى جنب مع المتظاهرين. لم يتوقع أحد ممن أجريتُ معهم المقابلات أن تولد ثورة حقيقية من رحم هذه التظاهرات. وعلى حد وصف صُحفية محلية تدعى أني نافاسارديان/ Ani Navasardyan "لو كانت الثورة قد جرى التخطيط لها، لكانوا تمكنوا من إيقافها".

 اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن حزب العمال الكردستاني؟.. 10 أسئلة تشرح لك

تحدث الكثير من الناس عن تحولات شخصية مروا بها عندما شهدوا التظاهرات وهي تتنامى وتكبر. شعروا بأن شيئًا مميزًا وخارجًا عن المألوف في طور التشكل وأنهم جزء منه، وأن تجربة "الحرية قادمة إلى بلادنا أخيرًا" على حد قول أوليا أزاتيان/ Olya Azatyan كانت لحظة مهيبة.
 
يمكن القول بشأن الثورة الشعبية أنها لم تكن إلا حراكًا مرنًا، دعا لشيء واحد فقط؛ وهو عزل ساركسيان عن السلطة سلميًا. فتح هذا الأمر أقصى مجال ممكن للإبداع أمام المشاركين. على سبيل المثال، نُظمت مباريات كرة طائرة في الشوارع لإغلاقها. وكذلك في الساعة الحادية عشر مساءً من كل ليلة خرج الناس إلى نوافذهم وأصدروا ضجيجًا مستخدمين أوانيهم ومقالهم معًا. "لم يكن بإمكان الشرطة إيقاف الجميع.

 شهدت  الثورة الأرمينية ضد ساركسيان حلولًا إبداعية لتخطي قدرات المؤسسة الأمنية، مثل إغلاق الشوارع بالمباريات الرياضية أو الاحتجاج من شرفات المنازل بقرع الآواني

لم يقتصر الضجيج القادم من النوافذ على الأواني، فقد تعالى أيضًا صراخ فردانيان في الدور الثاني من مقهى Café Illik. تتذكر أناهيت ساهاكيان تلك اللحظة قائلةً "بدأ موميك بالهتاف عن ثورة الحب والإخاء من الشرفة؛ ثم بدأ الشارع كله في الهتاف. كانت تلك واحدة من أسعد لحظات حياتي".
 
تتبعت أثر موميك فردانيان وطلبت منه أن يحكي لي قصة عبارة "ثورة الحب والإخاء". أخبرني قائلًا "كتبتها على فيسبوك، ثم ركضت إلى مقهى Café Illik وبدأت بالهتاف بها وبدأ الناس جميعًا بالهتاف بالعبارة. في اليوم التالي كنت قد فقدت صوتي، فكتبتها على لافتة وذهبت إلى الميدان. رآها الناس وبدأوا بالهتاف بها. بدا كل شيءٍ كمصادفة".
 
صنع أشخاص آخرون من مقهى Café Illik لافتات عن "ثورة الحب والإخاء" ظهرت في اليوم التالي ونادى الناس بها. في اليوم التالي لذلك ومع المعركة المتوترة التى بدا أنها محدقةً في الأفق، وجب عليهم أن يحسموا سؤال من سيصبح رئيس الوزراء المقبل. وصف نيكول باشينيان الحراك بـ  "ثورة الحب والإخاء" وأصبح لدى البلد بأجمعه مسمى لما كان قادمًا في الطريق.
  
سألت فردانيان عن رأيه في موعد اكتمال الثورة. أجابني قائلًا: الثورة بالكاد بدأت. عندما وضعنا تعريفًا لثورة الحب والإخاء قلنا: لندع هذا الثورة تستمر ولتكن ثورة الحب والإخاء. سيكون من الحسن أن لا تؤول هذه الثورة إلى نهايتها. لأن الثورة تفترض في حقيقتها وجوب ديمومتها. هناك دائمًا موضع للنضال ويجب عليك أن تشارك في هذا النضال، أيًا كان بلدك ومهما كانت مدينتك أو الأشياء التي تحيط بك.
  
سيكون هناك دومًا متسع للنضال من أجل تحقيق العدل والمساواة. كان ذلك هدفًا دائمًا وحاضرًا حتى قبل الثورة. لا يمكنك أن تناضل فقط من أجل الامتيازات أو الوظائف الجيدة. ولأجل دحر الأيديولوجيات التي تعزز شقاء الناس وإيقاف الناس عن لوم أنفسهم على هذا الشقاء؛ يجب على الثورة أن تستمر.

لا تعني الثورة المستمرة النضال فقط من أجل الامتيازات أو الوظائف الجيدة. بل لأجل دحر الأيديولوجيات التي تعزز شقاء الناس أملًا في بناء مجتمع وعقد اجتماعي أكثر فعالية وإنسانية

واليوم في يريفان، تبث نشرات الأنباء المسائية تقارير عن اعتقال مسؤولين رفيعي المستوى وتوجيه الاتهامات لهم. على سبيل المثال، أصبح الرئيس السابق روبرت كوشريان/ Robert Kocharyan أول رئيس لدولة من دول الاتحاد السوفيتي السابق يتعرض للاحتجاز لفترة مؤقتة. أولئك المحبوسون اليوم كانوا من بين أرباب الحصانة في الفترة الي سبقت الاحتجاجات. تستمد تصريحات رئيس الوزراء باشينيان بهذا الشأن جذورها من الفكرة القائلة بأن جميع عمليات الاعتقال يجب أن تقوم على الأدلة وحكم القانون. صرح في بث حي له على فيسبوك في 25 من حزيران/ يونيو 2018 قائلًا: "لا أملك حق احتجاز أيّ شخص خلف القضبان. لكني أستطيع وسأحتجز بالفعل كل من تورط في فساد مالي، وأولئك الذين تربحوا كثيرًا على حساب الأموال العامة. وسيكون مكتب المدعي العام المسؤول عن تحديد من يجب اعتقاله ومن سيبقى خارج القضبان".
  
على المستوى المحلي، تَعِدُ الثورة بتخليص البلاد من الفساد. لكن بسبب قيام العديد من النشاطات الاقتصادية على هذا الفساد واندماجه فيها، فإن تحقيق هذا الوعد أصعب مما يبدو عليه. على سبيل المثال، يلجأ بعض الناس لاقتراض الأموال لدفعها لمسؤولين حكوميين لينالوا فرصة للتدريب على منصب ضابط شرطة. ثم ما إن يصيروا ضباطًا عاملين، حتى يسعوا إلى تسديد هذه القروض جزئيًا عبر طلب وقبول الرشا على المخالفات المرورية. يتجلى مربط الفرس في هذه القضية في معالجة رواتب الشرطة التي جعلت من هذا الفساد ضرورة وحاجة. هذا بالإضافة إلى إصلاح إجراءات الاقتراض في النظام البنكي. تحديات مثل هذه حاضرة ومستمرة في المجتمع.  
يبدو أن معظم الأرمينيين يدركون أن الأمر يتطلب جهدًا ووقتًا. اشتريت تذكرة لمتحف يرفاند كوشار وفي وقت لاحق عندما كنت أهم بالرحيل، لحقت بي امرأة تعمل هناك، وأوقفتني وسلمتني إيصالًا وقالت لي وابتسامة كبيرة تعلو شفتيها "يقول رئيس وزرائنا الجديد أن علينا أن نفعل ذلك الآن".
 

 

اقرأ/ي أيضًا:  

ألكسندر صاروخان.. "المصري أفندي" الذي أهدرنا حقه

"الوعد".. حب ومذابح في خريف الإمبراطورية العثمانية