16-أكتوبر-2022
رضائي

كاريكاتير لـ إيمان رضائي/ إيران - هولندا

لم تحد ثورة الإيرانيات والإيرانيين من ورائهن عن مسارها منذ انطلاقتها. لقد كُتب الكثير عن مسارات هذه الثورة وسيكتب أكثر. وبعض هذه الكتابة يصيب عصبًا جوهريًا من أعصابها، وبعضها الآخر يدخل في باب الحماسة والتأييد. وهذا يبدو مع هذه الثورة أكثر من ضروري ومرغوب.

ورغم أن مرتكزات النظام الإيراني التي تقوم عليها شرعية هيمنته على المجتمع باتت طافية وبلا أسس، مع استمرار هذه الثورة، إلا أن احتمال أن يبقى النظام قائمًا ومعيقًا ما يزال كبيرًا. ذلك أن هذه الثورة، ورغم كل جذريتها، لا تعد نفسها وأهلها بمستقبل مشرق. قصارى ما تعلنه: دعونا نعيش حياتنا التي جعلتموها مستحيلة كما نستطيع ونحسن ونتمكن. ذلك أنها أصبحت مستحيلة حقًا تحت سلطتكم. وما يضع هذه الثورة أمام خطر الشعور بالتعب واليأس، كثير وعميم وكبير. وليس أمرًا يمكن اجتراح حلول له أو تدبيج خطاب يذلل مصاعبه.

في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته وحتى تسعينياته، كان الرأي العام الغربي مؤمنًا بأن السعادة والوفرة على قاب قوس أو أدنى من متناوله. وكان بوسعه أن يدعم أي تغيير في أطراف العالم ويهلل له

كُتب الكثير عن إهمال غربي لهذه الثورة. وهو أمر صحيح ودقيق. لكن أسباب الإهمال تتعدى مصالح الحكومات وسياساتها. وهي مؤثرة في كل حال. ذلك أن الرأي العام الغربي يعاني هو نفسه من مصاعب في التفاهم مع السلطة السياسية وأنظمة الحكم الديمقراطية. لا يستطيع غربيّ اليوم أن يقدم لك وصفة ناجعة لحل مشكلات المكسيك غير المحكومة من نظام مستبد، فكيف يسعه أن يقدم حلولًا للإيراني أو اللبناني أو السوري أو العراقي والفلسطيني؟ الديمقراطية التي تعيش ذروة أزماتها اليوم، وقد تنجح في التغلب عليها، لا تقدم لأي كان وعدًا بمستقبل أفضل. كل ما تقترحه عليك يتلخص بدعوتك لتدبير شؤونك بنفسك وحل مشكلاتك بما تملكه من طاقة وقوة وثروة.

في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته وحتى تسعينياته، كان الرأي العام الغربي مؤمنًا بأن السعادة والوفرة على قاب قوس أو أدنى من متناوله. وكان بوسعه أن يدعم أي تغيير في أطراف العالم ويهلل له. هكذا وجد الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي من يدعمه من المفكرين الليبراليين ومن يحضن قادته من الأنظمة الديمقراطية، ومن يشارك في تظاهراته من المتحمسين للغد المشرق الذي كانت وقائع تلك الأيام تعد الناس بها.

هذا، في الوقت الذي لم تدرك الديمقراطيات الغربية وصنّاع رأيها العام يومها، أن بزوغ هذه الثورات وتسيدها على الشأن العام في تلك البلاد، لم يكن تطلبًا للحرية والديمقراطية والسيادة، بمقدار ما كان تعبيرًا أوليًا عن أزمة الديمقراطيات في عقر دارها. هذه الثورات التي صنعت المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط برمته طوال العقود الماضية، كانت ثورات تريد الخروج من الحداثة برمتها. ذلك أن تجربة هذه الدول مع اعتناق الأفكار الحداثية والتسويق لنظمها السياسية منيت بخيبات أمل عميقة. لم يكن ثمة من يريد أن يقرأ حقًا في مصائر هذه البلاد، وكانت وصفات مفكريها وسياسييها للحلول تشبه في طبيعتها وضحالتها غيومًا عابرة سرعان ما تنشف مياهها بعد إطلاق زخاتها بوقت قصير. وهذا قصور تشاركنا فيه مع الرأي العام الغربي وصنّاعه. ذلك أن وصفات الحلول الجاهزة التي كانت تقدم لنا استمرت طوال العقد الماضي والعقد الذي سبقه من دون تمحيص أو تدقيق: انتخابات نزيهة، دولة مدنية، حوكمة رشيدة. وكل هذه الوصفات لم يتم التدقيق في جدواها ومعناها، وبقيت مجرد شعارات عامة، إلى أن باتت الأزمة مستعصية على الحلول، وأخذت هذه الأزمات تضرب الدول الديمقراطية في عقر دارها.

هكذا انتقلت فرنسا من الإيمان بدولة المواطن، يوم كانت ما زالت متجانسة عرقيًا وطائفيًا إلى حد بعيد، إلى الدعوة للتفريق بين الناس بناء على انتمائهم وعقائدهم ومنابتهم، يوم تنوعت انتماءات ومنابت مواطنيها إلى حد كبير. وليست فرنسا فريدة في بابها.

اليوم ثمة يأس مطبق، ورغبة عارمة، في كل مكان، في التقوقع وتضييق شروط الانتماء، والحد من التعاون بين الدول، والدعوات المستميتة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في كل مجال

اليوم ثمة يأس مطبق، ورغبة عارمة، في كل مكان، في التقوقع وتضييق شروط الانتماء، والحد من التعاون بين الدول، والدعوات المستميتة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في كل مجال. والحرب المعلنة في كل مكان ضد الغرباء والمهاجرين. وعالم هذه سماته لن يرحب بثورة مهما كانت واعدة، ولن يستطيع أن يدعم الآخر البعيد مهما تشدقت أبواقه بالدفاع عن الحريات والديمقراطية وحق الاختيار.

معضلتنا اليوم، أن بلداننا كلها، أو جلها، في طريق مسدود، في وقت يجهد العالم الواسع من جهة ثانية لإغلاق أبوابه أمام كل غريب. وفي هذا التخلي ما يشبه الدعوة لجعل كل البلاد التي تقع خارج نطاق العالم الغربي أشبه بغابات، ويجدر بأهلها أن يدبروا حيواتهم على الوجه الأنسب الذي يرتأونه.