مفتوحٌ جرحُ سوريا على أمل أن يرمّمه التقاء أبنائها وبناتها. ملايين السوريين لم يدخلوا وطنهم لأكثر من عقد من الزمان، عائلات تشتّت شملُها، عيونٌ لم ترَ شوارعها رؤيا العين، سكّان فقدوا منازلهم، شباب فقدوا أحلامهم، آباء لم يعانقوا أبناءهم وبناتهم، وأمّهات تنتظرن خبرًا أو رسالة. يجلس الفقدُ على طاولة الطعام شريكًا في البرد والظلمة، ولا ينام الانتظار ليلًا.
ازداد تمزق الشعب السوريّ خلال عقد ونصف من الموت والخراب والنفي والتهجير والإخفاء القسري. حدث هذا لمجتمع ممزّق بالأصل نتيجة الدكتاتورية التي منعت السوريين من أن يمارسوا سوريّتهم لعقود، وخلق الاستبداد حالة من العداوة بين السوريين يحرسها الخوف، بدأت تنزاح في بداية الثورة عام 2011، لكن سرعان ما عاد الموت والنجاة ليفرقّهم من جديد، وربما نستطيع القول إن كثيرًا من السوريين لا يعرفون بعضهم بعضًا. وبعيدًا عن ثنائية الخارج والداخل، لا يعرف أبناء دمشق عن أبناء إدلب الكثير، ولا يعرف أبناء طرطوس عن أبناء الرقة الكثير، ولا يعرف أبناء دير الزور عن أبناء درعا الكثير. وإن ذهبنا نحو تشخيص أكثر عمقًا، فكم يعرف أبناء المدينة الواحدة بعضهم عن بعض؟ كم يعرف أبناء دوما عن أبناء القصاع؟ والعكس كذلك.
من جهة أخرى، ثمّة أيادٍ باردة لا تمتدّ لتصافح، وثمّة أعين لا تلتقي. في الوقت الذي يحتاج السوريون أن يجتمعوا ويتعرّفوا إلى بعضهم، هناك من يصرّ على تقسيمهم بين الخارج والداخل. كانت هذه لعبة نظام الأسد منذ زمن طويل، ولكن يبدو أنها لا تزال متجذرة، تحديدًا حين نتحدث عن شعب عاش مأساة كبرى ومازال يعيشها.
هناك شعور عام بالألم والمظلومية لدى شعب من الضحايا، لا يجب أن يتحوّل إلى سباقٍ وتنافس على المراتب الأولى: من اعتُقل لفترة أطول، من تعرض للتعذيب أكثر، من بقي في الداخل ومن اضطر للخروج
ثمة من يستفيد من حالة الشرخ والشقاق بين السوريين، فبعض من بقي داخل سوريا استفاد من امتيازات التواطؤ مع نظام الأسد ولم يرد أن يخسرها: "بخاف من الناس اللي وقفت مواقف مو منيحة مع البلد وطلعت لبرا ترجع وتاخد مواقعنا". كان هذا تصريحًا للمغنية السوريّة ليندا بيطار، عاد للواجهة مؤخرًا بعد سقوط نظام الأسد، وهو يمثل توجه أولئك الذين ناصروا الدكتاتور. وفي الوقت ذاته، على الطرف الآخر، ثمة من استفاد من قضيّة المنفى واللجوء والهجرة ولا يريدها أن تنتهي، ويبدو لي وكأنّ نهجًا اتُّخذ لتهميش فناني ومثقفي الداخل السوري، وتحديدًا المعارضين منهم. وكأنهم يعاقَبون على بقائهم في وطنهم عقابًا يشبه النفيَ لكنه ثابت في المكان. فلا النظام راضٍ عنهم، ويجعل حياتهم جحيمًا بين الفروع الأمنية ومنع السفر والتحقيق والاعتقال، ولا المعارضة معترفة بهم لأنهم ليسوا موجودين على خرائطها.
ولكننا إن عدنا للثنائية الشهيرة: الخارج والداخل، فمن نعني فيها؟ هل نعني بالداخل أهل دمشق أم إدلب أم درعا؟ هل نعني من استفاد من النظام أم من صمت أم من ثار ودفع أثمانًا؟ ومن نعني بالخارج؟ من هم في برلين أم من هم في الزعتري أم من هم في مخيمات تركيا؟ هل الأمر مرتبط بالمعاناة أم بالجغرافيا؟
هناك شعور عام بالألم والمظلومية لدى شعب من الضحايا، لا يجب أن يتحوّل إلى سباقٍ وتنافس على المراتب الأولى: من اعتُقل لفترة أطول، من تعرض للتعذيب أكثر، من بقي في الداخل ومن اضطر للخروج، من عاش في المخيمات، ومن قتله النفي والاكتئاب والعنصرية. هذا الألم الجمعي، قد يكون أكثر ما يوحّد السوريين، ويجب تحويله إلى دافع للتضامن والتعاطف والمساعدة، وإلى طاقة توليد لبناء دولة لا تمارس هذا الإيلام مجددًا.
من جهة أخرى، وأقول هذا لنفسي أولاً قبل أي شخص آخر: أهلًا وسهلًا بنا جميعًا في وطننا، ولكن من الضروري، أن نهدأ قليلًا، خاصةً نحن الذين عدنا إلى سوريا مؤخرًا، وأن نستمع وننصت لمن بقوا في سوريا، وأن نتعلم منهم، ونعرف عنهم، ونرى حياتهم، وأن ننتبه في موجة الفرح ألا نسرق الأضواء منهم بسبب استعراضاتنا، وأن نتواضع قليلًا، كي لا نساهم دون أن ندري بزيادة الشرخ بين السوريين.