02-فبراير-2020

مقطع من عمل لـ فادي يازجي/ سوريا

حبّ

تستيقظ من غفوتها بعد أن تحس بثقله على يدها، تزيحه ببطء وحذر، تئن قليلًا ثم تعض شفتيها لئلا توقظه. على رؤوس أصابعها تغادر الغرفة باتجاه الحمام، الخدوش تملأ جسدها، وبقعة زرقاء تميل للون الأخضر على يدها مكان رأسه. تتفقد وجهها في المرآة، تطمئن أن البرودة التي تعشش تحت جلدها لم تترك أثرًا ظاهرًا للعيان. تمشط شعرها بأصابعها، تنتزع عقده الصغيرة، وكلما أنّت عضت على شفتيها لئلا توقظه.

قبل أن تفور قهوتها فتطفئ عين النار، تجري إليه بشفتين متورمتين، تقترب منه، فيلمع في عرقه كنصل حاد، غارقًا في ثقله، بالكاد يرتفع صدره ثم ينخفض. تنحي الأصفاد جانبًا، وتترك قبلة متورمة على فمه، قبل أن تضع مخدة مكان القبلة، وتعود إلى المطبخ زرقاء ترتجف، وهي تفكر كم تحب رجل الحديد الذي في الداخل، كم تحبه!

 

تنبؤات

يميل على قدمه القصيرة أكثر مما ينبغي، ثم بالاتجاه المقابل متهتهًا "تتك، تتوك، تتك، تتوك" فيضحك الأطفال ويضحك معهم. وحين يمر موظفو الإحصاء على القرية ويسألون عنه، تقول عجوز "يا عدرا تجبره، هاد مسكين، ما له حدا". ويكمل الموظفون عملهم كأن لم يروه.

يقول للأطفال مساءً "ااالآن تتتغيب الشمس" وحين تغيب يصفق ويضحك، كأنها نزلت في صدره. وكلما مرت سيارة، يقول لهم "ااالآن تتتزمر"، وحين ينطلق البوق مع شتيمة ليبتعد يقفز ضاحكًا كأنه ينحدر مع العجلات. وفي المساءات الشتوية يقول لهم "ااالآن تتتموء ققطة ههكذا مممووو"، وحين يتأخر الرد يعيد "مممووو"، وينتظر قليلًا مرخيًا أذنيه، "اااالآن"، ويعرج باتجاه أول الزقاق ويموء ثانية، "ااالآن"، وحين ترد قطة باقتضاب أقرب إلى رفع العتب، يصيح "هه هه ششفتوا".

يمر آخر الليل على كنيسة القرية، يشعل شمعة جديدة من أخرى مشتعلة، ويغرزها تحت قدمي المسيح. يهمس "ااالآن"، ويضرب قدمه القصيرة بالأرض، يرفع صوته "ااالآن" ويضرب قدمه ثانيةً، يصيح "ااالآن"، يخرج من الكنيسة ضاحكًا يعرج، بينما تنحدر دمعة من عين المسيح.

 

تمرّد

يحمل حقيبة الظهر المليئة بحاجيته، يدلي سماعات أذنيه الكبيرتين على رقبته، ويخطو سريعًا بكتفين متهدلتين ناحية الباب. يحني رأسه ولا يودع أمه، لا يقول إنه لم يعد ينتمي لحي قذر كالحي الذي فيه دفعته خارجها، وقلمت أظافره، وفركت ظهره، وشاهدته يدخن سيجارته الأولى. خائفًا من أن يضعف في اللحظة الأخيرة وهو يشعر بعيونها تتشبث به وتخدشه بقهر، لا يلتفت، وحين يضع يده على مقبض الباب يَثْبُت.

تمر به أمه محنية ثم مكسورة ثم ذكرى. يمر به التلفاز مكعبًا كصندوق العجائب، ثم مسطحًا كورقة مصقولة. تمر به الموسيقى وادعة وصالحة للبكاء، ثم عنيفة ومتمردة كحَبِّ البرد على سقف غرفته. يمر به سقف الزينكو ثم سقف الحجر ثم سقف القرميد. عوائل كثيرة تمر عليه، أطفال صار لهم أحفاد، وأحفاد يستقبلون آخر العمر بداء في المفاصل. والولد الهارب واقف هناك، كخلفية ثابتة لمشاهد مسرّعة، يعلق عليه سكان البيت صورهم العائلية، حيث الكل يبتسم بينما يقف الأولاد المتمردون بعيدين، يحملون حقائب الظهر، ويضعون سماعات أذن كبيرة في خلفية الصور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تضحك كثيرًا كلما تعرّضتْ للضرب

تفاحة آدم