07-سبتمبر-2018

كريستوفر هولر/ سويسرا

أمامَ المرآةِ الأولى

رجلٌ خمسيني، يبدو من هيئتهِ متعلّمًا وحادّ النظر، يمشّطُ بأصابعهِ شعرَهُ ولحيتَهُ بمشطٍ صغيرٍ، وكلّما ينتفُ شعرةً بيضاءَ من وجههِ أو صدغهِ، يَستَذكرُ بأنّةٍ خَفيةٍ: "عَيرتني بالشيب وهو وقارُ". لكنْ في غيابِ "ليلى" التي تُعيّرهُ، وبلا  يَدِها التي من حريرٍ سائل.

 

يُريدُ الخمسينيُ النوم بنصفِ كآبةٍ ونصفِ قلقٍ سَبَبُه امرأةٌ، امرأةٌ يرتسمُ نصفُ جسدها على السطحِ المصقول، ونصفها الآخر علىَ سماءٍ بعيدةٍ أو بحرٍ أخضرَ، أو علىَ عشّ طائرٍ مهاجرٍ إلى غاباتِ أوروبا، يقتلُهُ صيادو الأحلام كلَّ يوم، وكلّ يومٍ يَحيا وقد نَما لهُ ريشٌ جديدٌ، ورغبةٌ جديدةٌ في أرضِ بلادِه!

 

منذُ زارَ النهرَ وسمعَ الربابةَ وصعدَ المرتفعاتِ، ونسيَّ وصيةَ أهلِهِ البدو ومحاذيرهم الثلاث: الماء والربابة والتل وهوَ يزدادُ موهبةً في الحزن، وتَتَفتَحُ قرائحهُ على ريحٍ حنونٍ تأتي من هناك، أو ريحٍ حنونٍ تذهبُ إلى هناكَ، وصارَ يحسبُ على عدّادِ الخسارات أيامَهُ المتبقيات لا أيامَهُ الماضيات، يكتبُ وصيتهُ في المساء، ويضحك لمرآتهِ إذ يتأكدُ صباحاً، أنّه مازالَ حَيًّا.

 

يَتَعرّفُ الخمسيني امرأة أربعينية، يَتهاطلُ المشمسُ الشامي من فمِها ومن نهدِها شغبُ القطط، ولها عاداتُها، مثلًا تَعريها أمامَ المرايا ودخولُها الساحرِ فيها، أو نومَها على طرفِ السريرِ، وسقوطِها المتكررِ، أو مزاجها المتقلب وهيَ تبدّل ألبستها الداخليةَ، أو قرصها شامةً بنيةً فوق نهدها الأيسر.

 

في ذاكرة الخمسيني

لا تقرصُ المرأةُ التي في الأربعين شامتَها

إنّما تطعنُ جسدها المشتهى الذي يتلوّى كأفعى

 

الرجلُ الذي اعتادَ أنْ يُكلّمَ نفسهُ عنها

هوَ الآن يرى شَخصاً سواه ويكلّمَهُ كما لو "هو" 

 

أمامَ المرآة الثانية

امرأة وخيالٌ خفيفٌ وستارةٌ سوداء، تبدو المرأة في الخامسة والثلاثين -ربّما أكبرُ قليلًا- بنهدين نافرين وظل، تبدو أيضًا ناعمةً، مصقولةَ العوارض، وجهها يَشي بالثقةِ، ليسَت بدويةً لَكنّها تحبُّ القهوةَ المرّةَ وتعشقُ شاعرًا بدويًا، هو الآنَ يقفَ خلفها يجدّل شعرها على ضفيرتين، ويعزفُ لها على الربابةِ لحنًا غريبًا عن حربِ القبائل، لَكنهُ وحيدٌ تمامًا، بآثارِ جدري على وجههِ، قد يكونُ اسمهُ عبد الله الفاضل، ولهُ كلبٌ اسمهُ شير، ولمْ يبقَ لهُ من أهلِهِ إلّا النجوى و العتابا: "هَلَكـ شالو علىَ حمص وحما/ و خلولكـ عظام الحيل يا شير". لكنْ اسمعْ يا عبد الله لا حمصُ تلوحُ في الأفق ولا حما، والأهلُ الذينَ قلتَ عنهم: "هَلي ما لبّسَوا خادم سمَلهم/ و بجبود العدا بايتْ سُمْ إلهم/ وان كان هَلَك نجم/ ترى هَلي سما لهم/ وجثير من النجم علا وغاب" همُ الآنَ أبعدُ، أخذهمُ الجوعُ، و أخذهم جحيمُ الحربِ الأرضيةُ في سوريا!

هيَ لا تراهُ في المرآة

هيَ لا تشعرُ بملمسِ أصابعهِ

هي لا يفزُّ نهدها لأجلِه أبدًا أبدًا

غيرَ أنّها وكلّما لفحَها نفسُهُ

تَدّرُّ سائلًا أبيضَ شفافاً تُسميه: ماء الحياة! 

 

سَتسمي رجلها الخمسيني فيما بعد: الحياة، وسَتعيشُ في مرآتهِ سلطانةَ زمانِها، آخرُ ما تفكرُ فيهِ الحريةَ، يمكنُ لغرفةٍ 4 في 4 أنْ تكونَ عالمًا فسيحًا، ينجبُ فيهِ العاشقانِ مولودًا يسمونهُ "قيصر" سيولدُ القيصر بشطيةٍ قريبةٍ من قلبه، غيرَ أنّ طبيبًا مختّصًا في الحروب قال: "سَيتعايش معها".

 

المرأة تظهرُ في المرآة نهرًا، يَفيضُ على سهوبٍ ووديانٍ جسديةٍ، ولأنها تعرفُ عن نفسِها هذهِ الخرافةُ، تكونُ أكثرَ طمأنينة في سجنِ الرجلِ، وجعلهِ رهنَ الصوت الذي لا يخرجُ من حنجرتها، إنّما يرافقُ رحلةَ التأوهاتِ في الخروج إلى الأعلى إلى الأعلى! 

 

في المرّةِ التي حَبَستهُ في غرفتها ليلتينِ ونهارين، كَلّمتهُ عن الجنيّات في شعرهِ، وشَربا من خابيةٍ واحدةٍ نخبَ الله والصدفة، ثمَّ لبستْ قميصَ نومٍ خيطانهُ ذهب سائل أبضا، كانَ البابُ سعيدًا بحبسِ دهشتينِ خلفَهُ، وهذا ما يفسرُ ضحكةً نزيهةً منَ المرآة، بينَما كانَ العالمُ يَتّسعُ ثمّ يتسّعُ حتىَ صارَ بحجمِ حضنهِ وصارتْ هي قطةً طَيّعةٍ تلتَفُ بفروتهِ التي رافقتهُ رحلةَ الغاباتِ والأنهارِ وبنادقِ خفرِ السواحلِ وحرّاس الحقول. 

 

أمامَ المرآةِ الثالثةِ

نايٌ، رُبّما خَيالٌ باهتٌ لقصبٍ بثقوبٍ صغيرةٍ، ربّما أصابعٌ طويلةٌ لامرأةٍ فَلكيةٍ، تغني في معبدٍ أو معَ جوقةِ الجنيّات اللواتي يَنمنَ نهارًا، وليلًا يُغرينَ العشاق إلى السهول، حيثُ الزرعُ وافرٌ والحياةُ ممكنةٌ.

 

وربّما الحياةُ ممكنةٌ وما تراءى على المرايا الثلاث كانَ حقيقةً: رجلٌ خمسيني، امرأةٌ أربعينية، ظلٌّ باهتٌ للناي، سريرٌ بشراشفَ حمراء، أنثى ترقصُ على حافةِ السرير، رجلٌ يحاذرُ أن تسقطَ في الهاويةِ، وأخيرًا موتُ الثعالبِ في المرآةِ، ذلكَ اللسانُ الممدودُ، ويشي بالخديعةِ لا أثرَ لهُ، زجاجٌ يذهبُ حثيثاً إلى الصدقِ، فما عادَ الخمسيني يرىَ خيالَ امرأةٍ، ولا تَتخيلُ المرأةُ التي في الأربعين أنّها ترقصُ على حافةِ السرير، إنّما ترىَ رجلاً يرقبها في طريقها إلى الهاوية ليكونَ معها.

 

يمكنُ للمرآة أنْ تكونَ نافذة

يمكنُ للمرأةِ أنْ تكونَ نافذة!

 

اقرأ/ي أيضًا:​

عزيزتي مون.. السمكة وليس الخاتم

هكذا تكلّمت امرأتي الزرقاء

دلالات: