20-ديسمبر-2018

زوران ميوزك/ إيطاليا

شاب نحيل وبرفقته سبع حراس، مع كل دقيقة تمر تبدأ إحدى عظامه بالالتواء، وكلما مرت السيارة بمطبٍّ انكمش جسده ودخلت عظامه ببعضها البعض، هذا ما يشعر به رغم استحالته علميًا، إلا أنه كلما أمسك بصدره وجد أحد عظامه وقد تداخلت كالصلصال، دون أدنى ألم، حراسه فقدوا القدرة على الحركة من الإعياء.

توقفت العربة بعد ساعات من المعاناة وخرج مركولًا بأقدام الحراس الذين دبت فيهم الحياة فجأة.

ينتظر الجمع القابع في الصحراء على الجانبين الذبائح كي تلقى مصيرها، خنازير يظهر عليها الإجهاد، كلما حاول مع أحدهم الجزار لم يستطع حتى الوصول إلى موطن العروق من الدهون المحيطة، ما إن ملّ حتى أمسك بعنق أغلظهم وأخذ يخنقه حتى فارقته الروح، وما ان انتهى من مهمته حتى بدأ الجمع بالهتاف.

الجو صاف، وقد وقفت على رصيف لا يكمل المترين، يحاصرني أربعة شحاذين؛ عرجاء قمحية مستديرة الوجه تبتسم في سماجة، ما إن تجد لها فرصة للإمساك بي حتى تموه بالإسراع وتعتدل قدمها فجأة، وعجوز يبتسم بزاوية فمه اليسرى الحاذق، تهتز ذراعه كاملة كآلة بها خلل، أما الثالث فقد التف كدودة حول نفسه، وحينما يزحف على الأرض يشبه قطرة الماء، أما الرابع فأشعث يقف في انكسار، وعينه مسمرة على الأرض، لا يتحرك.

جميعهم طلبوا ورقة بعشرة بصوت غليظ موحد، وأنا أهرب منهم جيئة وذهابًا، ما إن مللت من الملاحقة، وزاد خفقان دقات قلبي، حتى ألقيت بالورقة على الأرض بجانب العجوز صاحب الذراع المرتعشة في اتجاه ذراعه المعطوب حتى يصاب بالقهر، لكن ساقيه مالا على الأرض كالروبوت، والتقطهما بهدوء، الغريب في الأمر أن المشهد توقف تمامًا حتى يأخذ الورقة ثم سرعان ما ثاروا جميعًا عليّ ككلاب مسعورة.

التقطتني حافلة مسطحة تشبه عربات الملاهي، يقودها شخص يرتدي نظارة سميكة، يبدو على نظره الضعف، كلما مر من نقطة أتى شخص بجلباب لا نتبين ملامحه؛ ليسحب نظارته وهو مستسلم له تمامًا، وتزداد سرعة السيارة بعد ذلك ويصرخ الراكبون لكن في متعة؛ وكأنهم بصدد ركوب لعبة جديدة.

أنظر خلفي فأرى أربعة مسلحين يقفون خلف السيارة مهما زادت سرعتها يظلون على نفس المساحة من نظري، تتحول أرجلهم فجأة إلى عجلات، ويسبقون طريقنا ثم يتوقفون قبالتنا، أصرخ في الجميع:

-انبطحوا.

فينزل الجميع تحت كراسيهم ما عدا السائق الذي يستقبل الرصاص غير مبال بشظايا الزجاج المسدد مباشرة لعينه، بعدها يكمل القيادة وكأن شيئا لم يكن، في مسار يشبه مسار ألعاب "الأركيد".

حين بحث في السرداب عن شيء ذي بال يسرقه، لم يكن أمامه إلا دقائق معدودة ليقرأ تلك الحيلة التي شدت انتباهه، لم يستطع حتى أن يضع الكتاب بملابسه؛ فقبل أن يفعلها كان حارسا السيرك قد هجما عليه.

أخرجا الصبي الذي غضب منه مدير السيرك من الغرفة، وأخذا يتناوبان على ضربه وإذلاله وجراه من شعره الذهبي غير المهندم، قبل أن يلقيا به في الخارج.

 

لكن الولد كان ذا ذكاء بارع، ذلك الذكاء الذي أفقده مصدر رزقه، فهو لا يذعن لكل الأوامر كما أنه يجتهد لكشف حيل السحرة؛ يلقي عليهم الأسئلة أمام الجمهور، وأمام المباغتة والصمت والصدمة، لا يجد الساحر إلا أن يعترف بكشفه للحيلة.

الصبي لا يفهم لم طردوه، فرغم ذلك الناس تأتي، بل يتضاعفون، يشاهدون الحيل المكررة دون كلل أو ملل.

-سأجن.

كان يتذكر ما قرأ جيدا: "حيلة بصرية تجعلك ترى كل ذوات الأربع على هيئة طائر نقار.

حاول مرة، والثانية، ثم الثالثة، ونجح بالرابعة ببراعة.

جربها على قط رمادي سمين، لم يخف منه حينما قرر أن يرتكن إلى مقلب القمامة.

وقرر أن يكون رفيقه، ألفه، أحبه، وبدأ في المرح.

الصبي الجائع، كلما أراد أن يأكل من العلب البلاستيكية التي يحملها الأطفال وتحمل طعامًا لذيذًا من أحد مطاعم الوجبات السريعة، حتى يقوم بحيلته، فيسقط الطعام من الضحية، ويقرف من أن يمد يده ليأتي به من الأرض مرة أخرى فيتركه للصبي.

وظل لأسابيع، يجول هو وقطه، حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم.

يمشيان سويًا، كأن الصبي برفقة كلب مدرب، يجري فيركض بنفس إيقاعه، والناس يشاهدون المنظر في عجب، يرون تلك المناظر لكلاب الشوارع نعم.

لكن قط؟!

ولهذا سبب وجيه، فالصبي يخاف من الكلاب خوفًا هيستيريًا، وهو يتجنبها بحيلته الوحيدة الفريدة، فيحمي نفسه ويحمي قطه ويوفر له مقالب أفضل طعامًا تسيطر عليها الكلاب سيطرة تامة.

أتى ذلك اليوم المشؤوم.

حينما ظهر رجل عجوز يحمل في يده لفافات سمك معلب، كانت تلك هي أول مرة منذ أن التقيا يترك فيها القط الصبي، ليقف متسمرًا أمام الرجل ينظر للأعلى على اللفافات، ثم عاد لصاحبه يمشي ببطء مقصود، رجاه أن يسرع حتى ينتهيا من مهمتهما هنا، ثم فلتكن له اللفافات.

فالصبي استشعر حاجة في المال فبدأ يعرض نفسه لأذية الخلق ورد الحقوق بأعمال انتقامية، مقابل مبالغ مالية صغيرة أو مسكن مؤقت، أو حمام يغتسل فيه.

-أكل عيشنا وأوعدك حنرجع نلاقيه.

ولم يستغرق الأمر دقائق حتى كان بائع البقالة يصرخ من ألم تمزق ساقه، والصبي يضحك واضعًا يده على جيبه في ارتياح والعجوز لا يزال واقفًا.

وبدأ الصبي في تنفيذ وعده للقط لكن ما إن اقترب القط من العجوز وفي نصف الحيلة مد العجوز يده بمنتهى الهدوء وأسقط قطعة سمك، ثم نظر للصبي وعلى وجهه ابتسامة صفراء، وعرض عليه قطعة بيده، قبل أن يرمي الثلاث قطع المتبقية بثلاثة أماكن متفرقة.

وقف القط على قدم صاحبه يرجوه بعينه أن يستعمل حيلته ليرد القطط الأخرى عن القطع اللذيذة، لكن الصبي استشعر الخطر مما يحدث وطفق يركض دون أن يلتف ليرى ما وراءه، أو ينتبه لما هو مقدم عليه، ولم يستفق إلا وهو في وسط مخيم كلاب جرباء، ما إن رأى أحدها يصدر منه صوت غريب ويعض على نواجذه بقوة، حتى ركض مسرعًا وورائه القطيع، ليختبئ وراء باب صفيح مهترئ.

تذكر إن بيده قطعًا من البومب، رماها ناحية النباح، هدأ الصوت، وظل الصبي يراقب الوضع خائفًا.

تسلل نحوه بهدوء كلب هزيل، له نفس لون القطة، ظنها حيلة من العجوز، لكنه وثق أنها لو حيلة فلن يؤذيه قطه في النهاية، اقترب الكلب من الصبي الذي استلقى مستسلمًا كيوم طرد من السيرك.

سحبه الكلب من بنطاله إلى الخارج بعزم غريب، واندفعت الكلاب المتبقية ناحيته، كانت آخر نظرة له قبل أن يتوقف قلبه على القط الذي وقف بعيدًا يبحث عن بقايا سمك العجوز.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

ما زلنا في رحلة السقوط

الحذاء