تتواصل النقاشات أوروبيًا حول صعود الشعبوية، ويتركّز النقاش في كبريات الصحف الأوروبية حول أسباب وتداعيات صعودها في القارة. ويأتي هذا الجدل عقب التقدم الذي حققه اليمين المتطرف مؤخرًا في الانتخابات الإقليمية في ولاية تورينغن الألمانية، حيث حقق حزب "البديل من أجل ألمانيا" انتصارًا بارزًا زاد من إضعاف ائتلاف يسار الوسط الحاكم قبل عام من الانتخابات البرلمانية، كما تقدم أيضًا حزب "بي إس دبليو" اليساري الشعبوي.
وتم تسجيل هذه النتائج قبل عام فقط من الانتخابات البرلمانية في ألمانيا، الأمر الذي يبعث المزيد من المخاوف من اكتساح التيارات الشعبوية للانتخابات المرتقبة في أهم اقتصادٍ أوروبي. مع الإشارة طبعًا إلى أنّ الانتخابات التشريعية في فرنسا منحت، هي الأخرى، التجمع الوطني من أقصى اليمين ما يقرب من ربع المقاعد، وأنتجت بالمحصلة برلمانًا معلقا لا أغلبية فيه لأيّ من الكتل السياسية.
ليست الهجرة وحدها هي العامل في صعود الشعبوية
يرى برتراند بينوا، في مقاله المنشور في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أنّ الشعبوية المناهضة للمؤسسات والمتصاعدة في أوروبا لا تغذيها الهجرة والمخاوف الاقتصادية والأمنية فقط، بل تتغذّى بصورة أعمق على تآكل الثقة بقدرة الحكومات على التغلب على هذه التحديات.
وقد ساعدت سلسلة من الأزمات، من الهجرة إلى التضخم فالحرب في أوكرانيا، الشعبويين على تحقيق انتصارات انتخابية، من إيطاليا إلى هولندا ومن السويد إلى فنلندا في السنوات الأخيرة. إلا أن بعض خبراء استطلاعات الرأي والمحللين يعتقدون أن هذه الأزمات ليست جديدة، إنما الجديد هو انهيار ثقة الناخبين بقدرة الحكومات المنتخبة على حلّها.
الشعبوية المناهضة للمؤسسات والمتصاعدة في أوروبا لا تغذيها الهجرة والمخاوف الاقتصادية والأمنية فقط، بل تتغذّى بصورة أعمق على تآكل الثقة بقدرة الحكومات على التغلب على هذه التحديات
ويرى مانفريد غولنر، رئيس مجموعة استطلاعات الرأي "فورسا"، أن الأزمات عادةً ما تكون مفيدةً للحكومات لأن الناخبين يتوحدون لدعمها، كما حدث بعد 11 أيلول/سبتمبر، وبعد الأزمة المالية، وحتى في ظل كوفيد-19 في البداية. أما اليوم فتتراكم الأزمات ودعم الحكومات في أقل حالاته.
ففي استطلاع أجرته "فورسا" للناخبين الألمان، نُشر الأسبوع الماضي، قال 54% من المستجيبين إنهم لا يثقون بأي حزب لحل مشاكل البلاد، وقال 16% فقط إنهم يثقون بالحكومة، وذلك بعد أن أظهر استطلاع سابق أجراه معهد الدراسات السياسية في باريس بين الناخبين في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا أن 60% من المستجيبين لا يثقون بالمؤسسات السياسية، وقالت النسبة نفسها إن الديمقراطية لا تعمل.
ويرى غولنر أن صعود الأحزاب الشعبوية والناشئة هو قمة جبل جليدي من عدم الرضا، والجزء المغمور هو الامتناع عن التصويت، حيث إن فقدان الناخبين الثقة بالحكومات يجعلهم يتجهون إلى الشعبويين ومعاقبة أحزاب المؤسسة، وذلك يؤدي إلى برلمانات منقسمة ويولد تحالفات غير قابلة للإدارة وغالبًا ما تكون غير حاسمة، تكافح من أجل الحكم.
وحتى في فرنسا، حيث ضمن النظام الانتخابي المكون من جولتين أغلبية مستقرة لمدة طويلة، بلغ التفتت السياسي درجةً أنتجت فيها الانتخابات البرلمانية الماضية برلمانًا معلقا.
إنّ فقدان الثقة في الحكومات ملموسٌ بشكل بارز في ألمانيا حيث يوجد شعور عام بأن لا شيء يعمل في البلد. ويقول هيرفريد مونكلر، وهو أحد أبرز علماء السياسة في ألمانيا، إن الافتقار إلى الثقة بالحكومة نتاجٌ جزئي للخطاب الشعبوي الصارخ الذي يخلق شعورًا بالإلحاح الذي لا يمكن لأي حكومة أن تتجاوزه.
ويواصل مونكلر قائلًا: "في الوقت نفسه تتراكم الأزمات مثل طبقات الكعكة بسرعة أكبر مما يمكن حلها"، مشبّهًا ذلك بعشرينيات القرن العشرين في أوروبا، حين كانت "الحكومات منهكة وتكافح لإقناع الناس بأن المشاكل قابلة للحل".
وترى "وول ستريت جورنال" أن هناك أسبابًا ملموسة تجعل الحكومات تشعر بأنها أقل فعاليةً اليوم، ففي فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة يعمل الدَّين العام المرتفع على تقييد خيارات الحكومات السياسية، كما أن شيخوخة السكان السريعة أدت إلى زيادة الطلب على العلاج الطبي.
وقد أصبح هذا الضعف محورًا للهجمات الشعبوية، خاصةً أن المشاكل التي تواجه الحكومات مكلفة ومعقدة للغاية لدرجة أن السياسيين ينتهي بهم الأمر إلى التظاهر بأنها غير موجودة، كما في غياب الجهود التي تبذلها برلين لتقليص حصة الغاز الطبيعي التي تستوردها من روسيا، وكما في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين.
التداعيات
إنّ نمو الأحزاب الشعبوية في ألمانيا يعود بشكلٍ رئيسي، حسب "بلومبيرغ"، للركود الاقتصادي الذي دام عقدين حتى الآن، بجانب تضخمٍ لم يبدأ بالتحسن إلا مؤخرًا، وفشل الحكومة الحالية في إظهار ما يكفي من الكفاءة والنجاعة للتخفيف من قلق الشعب.
وتنبع التحديات الاقتصادية التي تواجهها ألمانيا، حسب "بلومبيرغ"، من مشاكل تعود لفترة حكم أنجيلا ميركل، وأولها الاعتماد الكبير على الغاز الروسي الرخيص وعدم تنويع مصادر الطاقة، واتضحت عواقب ذلك عندما توقفت إمدادات الغاز بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
كما أن اعتماد جزءٍ من الاقتصاد الألماني على تصدير السيارات والسلع إلى الصين يجعله رهنًا لتقلبات السوق الصيني، ويجعل ذلك الألمان يشكون في رجاحة سياسات أحزاب الائتلاف الحاكم.
ومن أهم عوامل تراجع الاقتصاد أيضًا، حسب بلومبيرغ، انخفاض عدد الأشخاص في سن العمل، خصوصًا بعد هجرة عديد من شباب ألمانيا إلى الغرب، ويحدّ هذا من نمو الإنتاج والنشاط الاقتصادي.
كذلك، فإن السياسة الدستورية، التي تحد من اقتراض الحكومة لضمان توازن الميزانيات، تعوق الاستثمار في البنية التحتية والبرامج الاجتماعية، مما يزيد من حدة النقاشات بين أحزاب الائتلاف الحاكم بشأن كيفية توظيف الموارد المحدودة، ويعرقل التقدم الاقتصادي.