02-سبتمبر-2016

مواطن صعيدي (Getty)

يرتبط الصعيد في جنوب مصر ارتباطًا وثيقًا بعادة الثأر، حتى إنها صارت واحدة من علاماته الشهيرة، وترتبط هذه العادة بمجموعة من الممارسات والسمات المختلفة التي تصنع في مجملها ثقافة الثأر؛ ومعروف أن العادات تشكل جنسًا أساسيًا من أجناس الثقافة الشعبية، سواء كانت مأثورًا أو تراثًا، وهي الأساليب التي يتبعها بعض السكان في معيشتهم.

ومن أبرز السمات التي تُشكّل ثقافة الثأر ارتباطها بالمجتمع الذي يقوم على "القبَلية" بقيمها المختلفة، وأبرزها قيمة "العار" حيث إن قتل فرد من القبيلة يعني سُبة في جبين تلك القبيلة تنال من تاريخها ومستقبلها أيضًا، ومن ثمّ يتحرك رد الفعل في ذلك الفضاء الواسع، ولا يصبح القصاص من شخص محدد هو الهدف، بل محو العار، ورد الاعتبار لتاريخ القبيلة وهيبتها.

يصور الثأر في العادة إحدى مراحل تطور الجماعة عندما تكون القبيلة هي الرابطة الاجتماعية الوحيدة، وصاحبة السلطان، نافيًا عن السلطة أو الحكومة أو الدولة أن تنوب عن الفرد في القصاص

إن الثأر ببساطة شديدة دافع يُلزم الفرد من عصبية خاصة بالانتقام، أي الثأر لأحد أقربائه ممن قتله، ويصور في العادة إحدى مراحل تطور الجماعة عندما تكون القبيلة هي الرابطة الاجتماعية الوحيدة، وصاحبة السلطان، نافيًا عن السلطة أو الحكومة أو الدولة أن تنوب عن الفرد في القصاص، أو أن يخشى الفرد أن تنوب عنه الدولة في نيل شرف القصاص فيلتصق به عار الجُبن وقصر اليد.

اقرأ/ي أيضًا: العنف الطائفي في مصر.. تاريخ متجدد من الاشتعال

وفي صعيد مصر، نجد أن الثأر قيمة وممارسة اجتماعية لها مكوناتها وتقاليدها، إذ إنه مستقر في معظم أرجاء الصعيد ويُعدّ الوجه الآخر لهيبة العائلة وكرامتها داخل مجتمعها، والعائلة بجميع أفرادها مسؤولة عن الأخذ بالثأر، لما تحتله من مكانة متقدمة على أي انتماء آخر، فالعائلة تأتي قبل الفرد وقبل الدولة، فالأسرة هي المرجع الرئيسي لأفرادها، وتُعدّ العائلة في الصعيد المرجعية الوحيدة التي تحدد العلاقات مثل الزواج وشراء الأراضي والمساكن، وغير ذلك.

وكثيرون هم من يعتبرون أن الثأر عادة دموية وسلوك بدائي يتقهقر تحت نور التمدن والتحضر، مستندين في ذلك إلى أن الثقافة والتعليم بما يصاحبه من رقي العقل وتنزهه وسموه عن العنف يحول دون انزلاق الفرد أو العائلة والقبيلة إلى هذا المستنقع الدموي، إلا أنني أعتبر هؤلاء يعيشون في أكبر وَهْم للإنسان المعاصر؛ حيث إن كل إمكانات العلم والثقافة ناقضت هذا المفهوم لديهم، فهناك منظمات ذات تركيب عصري متطور قامت بمجازر ثأرية في قلب أكثر البلدان تعليمًا وتحضرًا، ونفذت مجازرها في المدن على وجه الخصوص، وليس في البوادي أو القرى فقط، مستغلة في ذلك كل إنجازات العقل الحديث من سلاح وتخطيط وحصار.

ولا يمكن إنكار أن عادة الثأر اتصفت بها كل الشعوب دون استثناء، وليس أهالي الصعيد فقط، وفي كل المراحل التاريخية أيضًا. ورسوخ تلك العادة وحيويتها في الصعيد لا يمكن رده لسبب بعينه، بل هو نتيجة منظومة معقدة جعلت النظام القبَلي حيًّا وفعالاً بشكل واضح؛ بمعنى أن نظام الدولة منذ ظهوره على يد محمد علي، لم ينجح في استيعاب متطلبات الصعيد بالشكل الذي يتلاشى فيه النظام القبَلي، كذلك فإن البُعد الجماعي لعادة الثأر، وقيامها على قيم مطلقة مثل قيمة العار لا يجعلان من واقعة القتل حدثًا منطقيًا يخضع لحسابات المكسب والخسارة، ما يُسفر عن ممارسات أخرى يعود إليها استهجان تلك العادة بالدرجة الأولى مثل عدم عقد العزم على قتل القاتل شخصيًا في بعض الأحيان، بل طلب الثأر من عائلته برمتها، أو الأفضل فيها بشكل مطلق، وهنا تكمن ثقافة القبَيلة، فواقعة القتل ليست حدثًا فرديًا يمارسه فرد في حق فرد، القاتل هنا فرد من قبيلة يقع عليها الوزر، والمقتول كذلك فرد من قبيلة يقع عليها واجب الثأر، فالعدوان حتى لو كان فرديًا إلا أنه يمثل انتهاكًا لحرمة القبيلة بأسرها، ولذا فهي تطلب الثأر من قبيلة القاتل، وإمعانًا في تأكيد المعنى، قد يختار أهل القتيل رمزًا من رموز القبيلة الأخرى، ذلك أن النظام الفعلي قَبَلي في جوهره، فحق القتيل واجب القبيلة لا الدولة، وهي لا تسعى كي تسترد حق المقتول فقط، ولكنها تسترد هيبتها أيضًا، ومن ثم تتجاوز عادة الثأر فكرة القصاص من القاتل.

اقرأ/ي أيضًا: 5 دول تمنع استيراد سلع مصرية لـ"عدم صلاحيتها"

ويمكننا ملاحظة أن فعل القتل مجرد ذريعة لظهور عداء قائم أصلاً، ولكنه بحاجة لعود كبريت كي تشتعل النار من جديد، ومن هنا يتحول المقتول إلى ذلك العود الذي يفجر الأزمة بين تكوينين بشريين مهيئين ومستعدين للفرصة المواتية لإثبات المكانة التي ترى كل قبيلة أنها جديرة بها.

كذلك فإن مرور الوقت لا يعني شيئًا لعادة الثأر، فحفرة الدم تلك ليست حدثًا عابرًا يمكن نسيانه أو السكوت عنه، بل تبقى الواقعة حيّة ونضرة باستمرار، قد يمر الزمن ويطمس الكثير من الأحداث، غير أنه ينحرف بعيدًا عن حفرة الدم ولا يستطيع أن يلمسها، ومن ثمّ لا تسقط الواقعة بمضي المدة، ومعروف أن هناك من يأخذ الثأر بعد مرور سنوات طويلة قد تصل إلى مئة عام!!

وأول الممارسات الشعبية في بلادي التي تنبئ بعقد العزم على الأخذ بالثأر وعدم ترك حق القتيل تتمثل في عدم إقامة مراسم العزاء أو قبوله حتى، وهذا يعني قرارًا بأخذ الثأر في يوم من الأيام، قد يكون في الغد أو بعد عقود، وعندما يتم أخذ الثأر، فهناك «التشريفة» حيث يقام سرادق العزاء في ظل أجواء من الفرح تبدأ بعد أخذ الثأر مباشرة، ويتم التعبير عنها علانية بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء. أما إن رضيت العائلة أو القبيلة بالصُلح وعدم الأخذ بالثأر فهناك مراسم تسمى بـ«القُودة» سأتحدث عنها في مقال لاحق.

ووجب التأكيد مرة أخرى على أن ثقافة الثأر لا تبرز في الصعيد وحده، لكنها تعتمد على ثقافة قائمة لا في العالم العربي وحده أيضًا ولكن في الثقافة الإنسانية بشكل عام، أو لعل الثأر في الصعيد مجرد مظهر بدائي ومباشر وصغير من مظاهرها الأخرى المنتشرة فيما نعتبره مناطق متحضرة كالمدن الكبرى، والتي تتقنع فيها ثقافة الثأر بملامح أكثر فنًا ودهاءً وتوحشًا؛ فعادة الثأر لا تختص بها منطقة دون سواها، بل لها وجودها الواضح عند كافة الشعوب.

ورسوخ عادة الثأر ينهض على تراث هائل لا يقتصر على التراث المعروف أو المحفوظ في الكتب التاريخية أو الفنون الشعبية، بل إن تراث الثأر يحمل ما لا حصر له من الحكايات غير المعروفة، إذ لكل قرية من القرى حكاياتها المرتبطة بالثأر والتي تنبع من أحداث حقيقية هي الأهم في حياة كل قرية، والأكثر حضورًا في مجالسها، فالواقعة التي نقرأ عنها خبرًا في عدة أسطر صغيرة، تشغل مساحة هائلة في حياة الجماعة المحيطة بمكانها، وهنا يتحول فيها الأفراد إلى مؤرخين ورواة شعبيين لا يتوقفون أبدًا عند تناقل الخبر، بل ويحيطونه بالكثير من التفاصيل والتصورات والتخمينات والمتابعات لسير أبطال الواقعة من الطرفين، واستدعاء كل ما له علاقة بالثأر في ذاكرة تلك الجماعة، وهكذا تتحول الواقعة الجديدة إلى نبع جديد يثري ويجدد ثقافة الثأر ويمد جذورها في أعماق الأجيال الطالعة.

اقرأ/ي أيضًا:
الأيض السياسي
كيف يرى المصريون أعداءهم السياسيين؟