08-مايو-2016

أكراد في النيروز، شمال سوريا

في ذلك الربيع من سنين ليست بعيدة، وعلى أعتاب الوادي العميق، أو الشرخ الأرضي الذي يقطع السوية الطبيعيّة لمنطقتنا السهلية في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، وفي الطريق إلى القرية "قريتنا" التي لم يبق من ريفيتها إلا القليل نتيجة تدخلات البلديّة في السنوات الأخيرة، والتي تملك اسمين "كيشكة" (شعبيًا كرديًا) و"الحمراء" (رسميًا)، كما كل قرى المنطقة على غير نمط القرى في المحافظات الأخرى من سوريا، والتي كان وعي أهلها وتكاتفهم السبب في توجيه دفة عمل البلدية الحديثة العهد إلى ضفة الصالح العام للقرية المسورة بتلال صغيرة لا تشبه الهضاب والجبال المعهودة، الصورة التي تظهر من ما وراء الحدود السورية التركية القريبة جدًا، والتي يقطن فيها أقارب الكثير من أهالي القرية المذكورة. 

الحركة التخريبية هي حقيقة ما تتبجح به دولة نظام الأسد في مسمى "الحركة التصحيحية"

قبيل الانزلاق إلى أسفل الوادي العميق والغريب عن طبيعة الطبيعة في المنطقة، والذي كان أحد رموز احتضان عيد النوروز "الكردي"، المحظور بصفته الاسمية والمغطى بعيد "الأم" ضمن الإصدارات البعثية المرتبطة بالحركة التخريبية، التي تتبجح بها دولة نظام الأسد تحت مسمى "الحركة التصحيحية"، ودون انتباه أن قداسة الاسم الجديد لدى الكردي لا تقل عن قداسة الاسم الأصلي للعيد المذكور. 

اقرأ/ي أيضًا: لماذا حدث ما حدث؟

ذلك الشرخ الأرضي الذي لا بد من المرور به للوصول إلى قريتنا، في زياراتنا المكوكية إليها من بلدتنا العمالية النفطية "رميلان"، التي تتبع محافظة الحسكة المصنفة في ميزان الدولة الاعتباطي ضمن المحافظات النامية، رغم النهوض الملحوظ مجتمعيًا على الأقل. وبسيارة الوالد الذي قضى سنين في تلك الرحلة غير الطويلة المسافة. سيارته التي كانت تجمع ما تبقى في ظلاله من الأسرة التي تشعبت ضمن التشعبات الطبيعيّة المُحتمة، والتي تصادف الأسر الشرقية القديمة الطباع في انبعاث الحياة من حيث كثرة الأولاد، والحديثة الانطباعات من حيث اختيار أسلوب العيش. 

على عتبة الانحدار، وفي خضم الأحاديث عن إدارة الأسرة، والخيارات المطروحة القليلة للأبناء بوجود حواجز البعث الحياتية الكثيرة أمام مجتمع المنطقة، والذي كان فحواه "الحديث" أحد مثبطات الاندماج مع جمال الربيع المحيط بالسيارة (سيارتنا) التي تمر ضمن ذلك الامتداد الأخضر الفسيح، أطل ثعلب الشمال علينا بلونه الأقل من الأحمر والأكثر من بُني.

اقرأ/ي أيضًا: يحدث أن يكون البكاء بعمرنا

أطل الثعلب بلونه المشابه لألوان أنابيب النفط الصدئة التي تقطّع المنطقة فرادى ومجموعات، دون أن يكون لأبناء تلك المنطقة أي حق في متابعة المصير الذي تنتهي إِليه تلك الأنابيب رغم تشاركهم جميعًا، وبكل ألوان المجتمع المتنوع الصبغة، في اشتمام سموم تلك الغازات المرافقة لعملية الاستخراج لكونها جزءًا من "الأمن القومي"، المحرم الاقتراب منه حسب مقياس دولة لا تتقن سوى خطاب الممانعة نفاقًا. كان يرانا منبهرين به، فأصبح يركض بهدوء غير معهود في سهول القمح التي لا تنتهي، والتي عانت من مواسم جفاف طارئة بين الحين والآخر، على غير موسم ذلك العام الذي كان في قمة عطائه. 

أصبح مصطلح "هناك" مصيرنا، وأن يكون كلنا هنا "خارج الوطن" جنى ما حصدناه على يد مفارز النظام

ركض بقفزات متناغمة طويلة وبطيئة، وكان يبرز مع كل قفزة ذيله الذي كان كخط عريض متململ يقطع قرص الشمس التي تستعد إلى المضي إلى جهة أخرى من الكرة الأرضيّة، حينها وأمام ذلك المشهد الأخاذ وأمام ذهولنا المشترك لحراكه وجماله واستقامتها مع ألوان الربيع غير الغريبة على تلك البلاد وامتداداتها على ما خلف الحدود، توقف أبي بِنَا وبذكائه وتعبيره الحسي المعهود قائلًا: "إنه يستعرض بهاءه". 

لم يبق شيء من كل هذا المشهد هناك، بعد أن أصبح مصطلح "هناك" مصيرنا نحن الذين خيّر لنا على يد ذات النظام ومفرزات مضاده الشائبة أن يكون كلنا هنا "خارج الوطن"، وكل حسب توزيع خريطة الظروف على جغرافية هذا العالم المشارك بشيء ما من محنة الشتات العام والمستمر لبلد يسمى سوريا، وبعيدًا عن "هناك"، في خفوت لكل ما يمت إلى الذاكرة بشيء. 

لم يبق من ذلك المشهد فعلًا سوى مرور الوالدين من ذات الطريق، وذات المنحدر، بوحدانية أكثر من ذي قبل، ودون أي ذكر لتلك السّهول القمحية التي لا تنتهي، وأهميتها كجزء من شخصية الإنسان في تلك المناطق، ومع اندثار واضح لنسخة نوروز تلك الأيام الخالية من الانكماش الشديد لصالح التوجهات الحزبية الضيقة لصالح مضاده. وأيضًا دون أي استعادة غير مقصودة لمرور نسل ذلك الثعلب ثعلبنا الشماليّ البهيّ.

اقرأ/ي أيضًا:

القنوات الجزائرية.. اليتيمة واللقيطات

السحارة ووجوهها