16-ديسمبر-2015

جاستن ترودو مع اللاجئين السوريين لحظة وصولهم إلى كندا

أصبحت كلمة إنسانية شديدة الابتذال الآن، فحين نصف شيئًا ما بأنّه إنساني، سواء كان عملًا أو مؤسسة أو شخصًا، يعني أننا ننصاع إلى الوهم. كلمة "إنسانية" أصبحت أقرب للمذمّة، والسبب أن الإنسانيّة تحولت إلى قيمة متخيّلة تُستخدم لغسيل العار الذي تنتجه المؤسسات والحكومات، بل حتى الأفراد على المستوى الشخصي للحفاظ على "إنسانيتهم".

حين نصف شيئًا ما بأنّه إنساني، سواء كان عملًا أو مؤسسة أو شخصًا، يعني أننا ننصاع إلى الوهم

صفة الإنسانية التي يتبناها البعض هي وسيلة لتبرير النذالة البشرية، وهي أسلوب صحي نستخدمه إلى جانب مفاهيم التعاطف والشفقة لنخفي في داخلنا عيبًا بشريًا هامًا، "على شخص آخر أن يكون ضحية كي أكون أنا ناجيًا، فأطعمه وأنام مرتاحًا ليلًا"، العيب البشري يكمن في رفضنا، كبشر ومجتمعات، الاعتراف بالعجز، العجز عن إنقاذ ملايين البشر أمثالنا، من الجياع والمهددين بالموت والمهمّشين، والاكتفاء بالبعض منهم، فالواجب الإنساني فرض كفاية، ننقذ البعض والباقي لاحقًا أو لا يهم، وكأن من أنقذ نفسًا كأنما أنقذ الناس جميعًا.

يتخفّى فشل الإنسانية بمهارة، يزيح عيوبه وضحاياه عن الانتباه، يدّعي البعض أنهم كـ"سيزيف"، يحمل همّ البشريّة، وبرومانسية من خانه الجميع ووقف وحيدًا بوجههم يجمّل صخرته، حقيقة هي ليست صخرة ولا حتى همّ البشريّة، هي حذلقة خفيّة لإخفاء الغرور بأننا نَهتم، هي الرغبة بألَّا نشعر بالذنب.

تصفيق وبكاء ودموع إثر وصول اللاجئين السوريين إلى كندا، ليتبجحوا بالإنسانيّة، كي يناموا ليلًا فرحين، بل أيضًا هناك جوقة من الأطفال تغني تراث هؤلاء اللاجئين-علمًا أن الحفل لم يكن على شرفهم، بل هو من حفل سابق وقبل وصولهم لكن تم الترويج له بوصفه جزء من احتفال وصولهم- نعم هم لطيفون، ظلمتهم الإنسانية، لنكفر عن فشلنا تجاه الباقين بإطعام أولئك اللاجئين وكسائهم.

مشهد السوريين الواصلين إلى كندا يحمل في داخله إدانة لمفهوم الإنسانيّة، كامرأة مترهلة النهدين تحاول عرضهما للذة. نعم الكثير يموتون، لا مشكلة، المهم أن ينام الإنسانيون مرتاحي الضمير، الباقون ضحايا، هم فقط منغصات للحيوات الإنسانيّة الكاملة، لنتبرع لتنظيف الشوارع، أو لشحاذ الحي، أو لطفل ما، أما عن الباقين، "من لم نرهم"، هم غير موجودين.

مشهد السوريين الواصلين إلى كندا يحمل في داخله إدانة لمفهوم الإنسانيّة

لنغسل عارنا بمهرجان للإنسانيّة، ونجلب بعض السوريين ونريهم ربوع بلادنا، التجارة بالضحيّة من أنجح تقنيات البشرية في إخفاء عيوبها. متاحف للمجازر، متاحف للموتى، متاحف للسلاح، كيانات رمزيّة للفشل، كالرأس المقطوع والمعروض للكاميرات، الوحشية وفق منظومة الإنسانية ليست من الفعل نفسه، هو ليس بالجديد، بل من انتشاره، لأنه يبعث على الأرق، هو يجرح مشاعر الإنسانيين ويحثّهم للتبرج والبهرجة أكثر، كم صيغة استهلاكية بعد للضحية بوصفها سلعة لنقاء الضمير؟ نحن قادرون على ترك الطغاة والقتلة يمرحون ويتابعون شؤونهم، نتجاهل أصل المشكلة ونتابع الأعراض، لأننا إنسانيون.

نعم عالمٌ ما يتمنى له الرئيس الأمريكي حياة جديدة في أمريكا، آخر تحول إلى كاتب لأن مؤسسة أوروبيّة ما أعجبت بنصوصه عن القنابل والجثث، الباقون؟ هم سِلع لا تمتلك سِحر الشاشة، تبادل صورهم لن يقضي على القلق الليلي الذي يصيبنا كإنسانيين، نعم ستيف جوبز جاء إلى أمريكا كلاجئ، ما المعنى؟ ما الفائدة من الترويج له؟ الضحية /اللاجئ تستغله الإنسانية بوصفه مسحوق تجميل لجسدها القبيح، هو معادل رمزي لتبرير العيب فينا كبشر، كالأُضحية، لكن هذه المرة هي الحياة التي ترسم الوَهم بالخلاص، لا الموت.

الإنسانية وعبر انهيارها كمفهوم مؤسساتي من جهة، وفردي من جهة أخرى، تختزن في داخلها مفاهيم تكّون بنية فشلها، الشفقة والتسامح. الشفقة تعني التنازل من أجل تلك الضحية، والتسامح يعني تقبل "الخطأ" من أولئك المهمشين أو الغرباء، هي اعتراف بالاختلاف واللامساواة، أما التعاطف فهو ابتذال عاطفي ناتج عن العجز، لا أؤمن بإنسانيّة تختزن التناقض داخلها، لنعترف، ببساطة أننّا أنذال، وأنّنا نذرف الدموع على من نعرفهم ونرى صورهم بوصفها -الدموع- ضريبة ندفعها لننال القبول الاجتماعي من جهة، والتصالح النفسي من جهة أخرى، بعدها، لنتابع العشاء مع النبيذ بسلام.

اقرأ/ي أيضًا:

جاستن ترودو.. "ميركل" جديد؟

في مديح السيدة الجليدية