28-أبريل-2021

كتاب "رحلة المخاطر" (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.


في منتصف أيار/ مايو عام 1948، ودون تخطيطٍ مسبق، شُقِّت طريق غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) باتجاه عالم الصحافة، المهنة الأفضل في العالم بحسب تعبيره. كان الكاتب الكولومبي يبلغ من العمر آنذاك واحدًا وعشرين عامًا، حين اقترح عليه أحد أصدقائه خوض غمار الصحافة التي سرعان ما أتقنها ومنحها، إلى جانب البُعد الشعري، شيئًا عميقًا من ذاته.

"رحلة المخاطر" عبارة عن تحقيق، ولكن ليس مجرد تحقيق، بل إنه تصوير عاطفي للظروف التي أحاطت بتلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر

ومنذ البداية، أدخل ماركيز هذه المهنة في صلب اهتماماته الأدبية، حيث زاوج بينها وبين الأدب في سياق محاولاته لبناء أسلوبه الصحفي الخاص، والذي اشتُهر بالبلاغة والسخرية وسرد الأحداث بطريقةٍ تفاجئ القارئ، بالإضافة إلى حرصه على توفير معلوماتٍ مضادة، تتصدى لما تأتي به التغطيات الصحفية الرسمية التي تُبنى على هوى السلطة.

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: غير المرغوب فيه

ولعل أشهر ما تميز به أسلوب غابو الصحافي، هو المهارة في بناء استهلالٍ يوضع في مطلع النص كفخٍ للقارئ، بحيث يشده ويدفعه إلى مواصلة القراءة محملًا بفضولٍ لا ينضب، تمامًا كما هو الحال في كتاباته الروائية التي حمل بعضها ملامح أسلوبه الصحفي، لا سيما التكثيف الشديد واللغة المتقشفة التي كُتبت بها رواياته التالية: "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، و"قصة موت معلن"، و"رحلة المخاطر: قصة وثائقية تصور مغامرات ميغيل ليتين في تشيلي"، وهي أكثر أعماله تجسيدًا لهذا المزج بين الصحافة والأدب.

"رحلة المخاطر"، هو أقل أعمال غابرييل غارسيا ماركيز شهرةً في العالم العربي. الكتاب الصادر عام 1986، يضم بين دفتيه تحقيقًا صحفيًا نُشر على مدار عشرة أيام في صحيفة "إلباييس" الإسبانية تحت عنوان "مغامرات ميغيل ليتين"، تناول فيه مؤلف "خريف البطريرك" تفاصيل دخول المخرج السينمائي التشيلي ذي الأصول الفلسطينية، ميغيل ليتين، إلى تشيلي سرًا بهدف تصوير فيلمٍ يوثق أحوال البلاد في ظل حُكم العسكر.

كانت تشيلي حينها ترزح تحت وطأة حكم الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي وطد أركان نظامه عبر سلسلة ممارساتٍ قمعية، لعل أهمها قيامه بنفي نحو خمسة آلاف مواطنٍ تشيلي، من بينهم ميغيل ليتين الذي أدرك، في منفاه المكسيكي، أن السبيل الوحيد للخلاص من بينوشيه ونظامه، هو العمل على توثيق وفضح ممارساته القمعية، ونقل واقع البلاد وأحوالها إلى العالم عبر فيلمٍ تسجيلي متكامل.

أعد المخرج السينمائي خطة محكمة لتنفيذ غايته، حيث تواصل سرًا مع مجموعة أشخاصٍ من جنسياتٍ مختلفة، بهدف تشكيل فريق تصويرٍ سينمائي يساعده في تنفيذ المهمة التي حملها على عاتقه، في الوقت الذي غيّر فيه اسمه ومظهره، وتمكّن خلاله من الحصول على جواز سفرٍ مزيف، بالإضافة إلى استخراج تصاريح رسمية تمكّنه من التصوير دون تضييقاتٍ أمنية، ذلك أن الهدف المعلن حينها كان تصوير فيلمٍ يتناول طبيعة الحياة في تشيلي فقط.

وبينما كان الفريق يتظاهر بتصوير الفيلم، كان ميغيل ليتين يلتقط بكاميرته، سرًا، مشاهد توثق مستوى القمع السياسي وسوء الأحوال الاجتماعية والمعيشية في ظل حكم أوجستو بينوشيه، محاولًا الإحاطة بمختلف التفاصيل التي تنقل واقع تشيلي إلى العالم. وبعد الانتهاء من التصوير، دبر المخرج السينمائي طريقةً للخروج بالفيلم من البلاد، ومنحه آنذاك عنوانًا ملفتًا للانتباه: "البيان التشيلي"، ليكون بمثابة تحقيقٍ صحفي يثبِت بالصوت والصورة ممارسات النظام الدكتاتوري.

لم يكتف غابرييل غارسيا ماركيز بمشاهدة الفيلم فقط، بل أراد الذهاب أبعد من ذلك، محاولًا إظهار ما لم يظهر منه، وهو كواليس مغامرة ميغيل ليتين التي قرّر توثيقها في تحقيقٍ صحفي على شكل عملٍ روائي، معتبرًا أن تفاصيل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، لا تقل أهمية عن مضمون الفيلم ذاته، ذلك أنه اشتباكٌ من نوعٍ آخر مع السلطات الفاشية في تشيلي.

يضم الكتاب تحقيقًا صحفيًا تناول فيه ماركيز رحلة المخرج التشيلي ميغيل ليتين إلى بلاده سرًا بهدف تصوير فيلمٍ يوثق أحوالها

يقول صاحب "مئة عام من العزلة" في مقدمته إن الكتاب: "من حيث طبيعة مادته، عبارة عن تحقيق، ولكن ليس مجرد تحقيق، بل إنه تصوير عاطفي للظروف، التي أحاطت بتلك الرحلة، المحفوفة بالمخاطر في كل لحظة وفي كل خطوة. والتي كان هدفها النهائي أكثر عمقًا وتأثيرًا من مجرد محاولة تصوير فيلم تحت سمع وبصر النظام الدكتاتوري التنكيلي. يقول ليتين: ليس هذا أكثر تصرفاتي بطولة، ولكنه أكثرها مدعاة للاعتزاز. وبالفعل فإن عظمتها تكمن هنا".

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: ما يبقى

هذه الرحلة إذًا، هي موضوع كتاب "رحلة المخاطر"، الذي صدرت طبعته العربية عن "منشورات دار مجلة الثقافة" في العاصمة السورية دمشق، ترجمة هاشم حمادي. والملفت للانتباه أن هذه الطبعة، وهي الوحيدة، لا تحمل في متنها أي إشارة إلى العام الذي صدرت فيه، ولكن جميع المعلومات المتوفرة تشير إلى أواخر ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الفائت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تُرجم قديمًا: إدغار آلان بو

تُرجم قديمًا: وقائع مدينة ترافنك