26-ديسمبر-2016

شعار الخلدونية في تونس (نور الدين أحمد/ألترا صوت)

عقدت في فضاء الجمعيّة الخلدونيّة بالمدينة العتيقة في تونس مائدة مستديرة ومعرض بتنظيم مشترك بين المكتبة الوطنيّة، والأرشيف الوطني والمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر بمناسبة مرور 120 عامًا على تأسيسها. واستعرض المتدخّلون أبرز أدوار المعلم العريق منذ تأسيسه نهاية القرن التاسع إلى حدود الفترة الراهنة مرورًا بفترات أزمته غداة الاستقلال.

بعثت الخلدونية عام 1896 بغية توسيع معارف طلبة الزيتونة، الذين اقتصر تعليمهم على علوم اللّغة العربيّة والعلوم الشرعيّة

حلقة نقاش في الخلدونية بمناسبة الذكرى 120 لتأسيسها (نور الدين أحمد/ألترا صوت)

مرحلة التأسيس:

تناول المتدخلون تاريخ تأسيس المدرسة الخلدونيّة. حيث تمّ استعراض تاريخ مقرها بنهج سوق العطارين في المدينة العتيقة منذ كان منزلًا للعالم الحفصيّ الإمام ابن عبد السلام في القرن الرابع عشر. وقد بعثت الجمعيّة على يد مجموعة من قدماء المدرسة الصادقية (التي أسسها المصلح خير الدين التونسي لتعصير التعليم) ومجموعة من شيوخ جامع الزيتونة عام 1896. وقد تمثّل هدفهم الرئيسيّ في توسيع معارف طلبة الزيتونة الذين اقتصر تعليمهم على علوم اللّغة العربيّة والعلوم الشرعيّة، فيما وفّرت الخلدونيّة لهم تكوينًا في العلوم الحديثة مثل الجغرافيا واللّغات والرياضيات والقانون وغيرها.

وقد ترأس المصلح التونسي البشير صفر الخلدونيّة، التي ساهم في تأسيسها، عام 1897. وعمل صفر على تقديم محاضرات في التاريخ ضمّنها آراءه الإصلاحيّة. كما ساهم أيضًا الشيخ سالم بوحاجب في نشاطها بإلقاء محاضرات، وهو من الشيوخ الإصلاحيّين الذين حاولوا تجاوز الأدوار والرؤى المشيخيّة التقليديّة.

وكان كذلك لخليل بوحاجب، ابن الشيخ سالم، الذي تقلّد منصب وزير القلم ثم أصبح وزيرًا أكبر (رئيس وزراء) دور مهمّ داخل المدرسة وفي المشهد الثقافي التونسي بصفة أعمّ. حيث أصبح عضوًا في الهيئة المديرة للخلدونيّة عام 1898، وساهم فيها بمعارفه التي اكتسبها في تونس وفي فرنسا حيث أكمل دراسته. كما اعتاد خليل عقد صالون ثقافيّ يجمع فيه نخبة من المثقفين، التونسيّين والعرب. وتعرّف في صالونه على الأميرة نازلي الفاضل ابنة مصطفى فاضل باشا المصريّ، التي تزوّجت به واستقرت في تونس لمدة 13 عامًا. وقد تشاركت الأميرة مجالات الاهتمام مع زوجها، حيث اعتادت هي أيضًا تنظيم صالون ثقافيّ في مصر يجمع نخبة من المثقفين من بينهم الشيخ محمد عبده (الذي ألقى محاضرة في الخلدونيّة عام 1903) وقاسم أمين وجمال الدين الأفغاني وطلعت حرب.

كما تشاركت معه أيضًا الرؤى الإصلاحيّة حيث تبنّت قضيّة تعليم وتحرير المرأة والرفع من مكانتها في المجتمع. وساهمت الأميرة في أنشطة الخلدونيّة كما وفّرت كتبًا لطلبتها. ويُذكر أثر الأميرة نازلي الفاضل في الحياة الثقافيّة التونسيّة في كتاب "شهيرات التونسيات" للمؤرخ حسن حسني عبد الوهاب، كما ألف الناقد والباحث أبو القاسم محمد كرو كتابًا حولها بعنوان "الأميرة نازلي الفاضل، رائدة النهضة بمصر وتونس".

اقرأ/ي أيضًا: الجامعة التونسية..تاريخ من النضال والصراع

مرحلة التطوير:

أشار المؤرخ محمد ضيف الله، المختص في المسائل الطلابيّة، في مداخلته إلى التطوّر الذي شهدته الخلدونيّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة. حيث عرفت المدرسة وتونس تحوّلات كبرى. فقد أمسك الشيخ محمد الفاضل بن عاشور إدارة الخلدونيّة. وأمام تأسيس الاحتلال الفرنسيّ معهد الدراسات عام 1945، والذي كان يتبع جامعة باريس ويدرّس مواده باللغة الفرنسية، قرّرت الهيئة المشرفة تحت إدارة بن عاشور تحويل الخلدونيّة إلى ما أسمته "جامعة شعبيّة".

داخل ذلك الإطار، صالحت الخلدونيّة بين شهادة التعليم العصري (البكالوريا) وشهادة التعليم الزيتوني التقليديّ (التحصيل) حيث اشترطت حصول الطالب على إحداهما للالتحاق بها. وتأسس داخلها معهد الدراسات الإسلاميّة، الذي قُسّم إلى أربعة فروع تهدف إلى دراسة التاريخ والجغرافيا وسياسة المجتمعات الإسلاميّة في الهند وإيران وتركيا والعالم العربيّ. وقد نظّم المعهد حوالي 50 محاضرة سنويًا. كما تمّ بعث معهد الحقوق العربيّ لتدريس القانون باللّغة العربيّة ومعهد دراسات الفلسفة.

كما أقام ضيف الله ربطًا بين تطوير نشاط الخلدونيّة وبين الحركة الوطنيّة التحريريّة التونسيّة. حيث اعتبر المدرسة جزءًا من المشروع الوطنيّ المضاد للاستعمار. إذ درّست في المعاهد المنشأة شخصيات تنتمي إلى قيادة الحزب الحرّ الدستوريّ الجديد، من أبرزهم صالح بن يوسف، الباهي الأدغم، علي البلهوان والصحبي فرحات إضافة إلى الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والأديب محمد العروسي المطوي. علاوة على ذلك، احتضنت الخلدونيّة المؤتمر التأسيسيّ للاتحاد العام التونسيّ للشغل عام 1946 ونال مديرها الرئاسة الشرفيّة للمنظمة، إضافة إلى احتضانها مؤتمر الثقافة الإسلاميّة عام 1949.

وفي المحصّلة، استنتج ضيف الله أنّ المدرسة الخلدونيّة انطلقت كامتداد لجامع الزيتونة وانتهت مؤسسة شبه مستقلة لها أدوار وطنيّة وعبر وطنيّة وتتفرّع عنها مؤسسات أخرى.

انطلقت المدرسة الخلدونيّة كامتداد للزيتونة وانتهت مؤسسة شبه مستقلة لها أدوار وطنية وتتفرّع عنها مؤسسات أخرى

مرحلة الانحدار:

لكن التطوير لم يدم طويلًا، حيث عرفت الخلدونيّة بعد الاستقلال انحدارًا عطّل نشاطها. حيث أشار محمد ضيف الله إلى التضييق الذي عرفته المدرسة منذ 1958. حيث نصّ قانون الجمعيات عام 1959 على تقديم الجمعيات القائمة مطالب جديدة لمواصلة نشاطاتها، وقد اُعتبرت الخلدونيّة جمعيّة بعد قرار توحيد التعليم ما يعني تجريدها من دورها العلميّ. ونُشرت في تلك الحقبة في الرائد الرسميّ التونسي قائمات ممتدة لأسماء الجمعيات التي حَلّت هياكلها. وجرّاء الإجراءات الجديدة، توقّف نشاط الخلدونيّة وحوّل جزء منها إلى مدرسة خاصّة وألحق فضاء مكتبتها بإدارة المطالعة العموميّة. وفي عام 1980، أغلق الفضاء تمامًا إلى حدود عام 1992 حيث ألحق بالمكتبة الوطنيّة وجرت محاولات لإحيائه.

تحدثت سهام الغديرة عن تلك الفترة، حيث كُلفت حينها بإرجاع النشاط إلى الخلدونيّة. وقالت إنّه في بداية إلحاق الفضاء بالمكتبة الوطنيّة، وقع استغلاله لمدة كمستودع قبل إطلاق مشروع الإحياء الذي بذل مجهودات في سبيل فهرسة وأرشفة الكتب الموجودة بمكتبة الخلدونيّة والاعتناء بها. حيث تشمل المكتبة حوالي 5000 عنوان أغلبها باللّغة العربيّة وتحوي كتبًا ومخطوطات نادرة. وأعيد فتح الفضاء إلى حدود عام 1996 لكنه بقي شبه معزول.

اقرأ/ي أيضًا: طلاب تونس وحلم الجامعة الخاصة

العودة إلى النشاط:

تحدثت رجاء بن سلامة، الجامعية ومديرة المكتبة الوطنية، على هامش الاحتفالية إلى "ألترا صوت" حول مشروعها لإحياء فضاء جمعيّة الخلدونيّة مرّة أخرى. فقالت إنها "تعمل منذ توليها إدارة المكتبة الوطنيّة بداية السنة الحالية على إحياء الفضاء. حيث أعادت فتحه وحوّلته إلى مجال للمطالعة والأنشطة الثقافيّة". كما تحدثت عن مراسلتها لبلديّة تونس لاسترجاع جزء مهمّ من البناء يقع تحت إشرافها دون استغلاله. وتطمح بن سلامة إلى توحيد الخلدونيّة مرّة أخرى وإرجاع بريقها خاصّة أنها تقع وسط سوق تجاريّة وأحياء سكنيّة في المدينة العتيقة ما يسمح بإشعاعها على محيط في أمسّ الحاجة إلى فعاليات ثقافيّة.

كما تحدث "ألترا صوت" مع عادل الحاج سالم، مسؤول الأنشطة الثقافيّة بالمكتبة الوطنيّة، الذي أطلعنا على الأنشطة الثقافيّة المبرمجة في الفضاء كلّ يومي أربعاء وجمعة تحت اسم "مجالس الخلدونيّة". وتتوزّع الفعاليات بين ورشات تفكير وموائد مستديرة ونواد للرواية والشعر والأدب تعنى بالأخصّ بالإنتاجات الشبابيّة وتشجّعها.

الخلدونية في تونس (نور الدين أحمد/ألترا صوت)

اقرأ/ي أيضًا:

ساقية سيدي يوسف.. تاريخ نضالي آخره مأساة

الجامعة الشعبية في تونس.. مجانًا وللجميع