18-أكتوبر-2020

إنّ أكثر ما يُستعاد لحظة استعادة توماس برنهارد هو الصفات المُرتبطة به: العدميّة والعدائيّة والاستفزاز والرفض والسّخرية أيضًا، وهذه الصفات لا تقتصر على أدبه فقط، وإنّما على حياته الشخصيّة بصفة عامّة، وموقفه من الحياة، وتعامله مع مُحيطه أيضًا، وهو تعامل فظّ مُرتبط بطبيعة هذا المُحيط قبل كلّ شيء آخر، فالعلاقة بينهما علاقة مُضطّربة لاعتبارات مُختلفة ولكنّها جميعها مُتعلِّقة بالقُبح والرداءة والزيف باعتبارها أكثر ما تشتهر به النمسا والنمساويّون ساكنو الشّعور واللامُباليون وأصحاب الأفكار المُهترئة والتجارب الفوضويّة والهويّة المُبهمة، كما وصفهم خلال خطابٍ ألقاه بمناسبة حصولهِ على جائزة الدولة للأدب عام 1967.

إنّ أكثر ما يُستعاد لحظة استعادة توماس برنهارد هو الصفات المُرتبطة به: العدميّة والعدائيّة والاستفزاز والرفض والسّخرية أيضًا

العدميّة والعدائيّة والرفض والسُخرية والاستفزاز والنبرة التهكّميّة حاضرة في مُجمل أعمال برنهارد بدرجاتٍ وأشكالٍ مُتفاوتة تبعًا لطبيعة العمل المكانيّة والزمانيّة أيضًا، ولكنّها مُرتبطة جميعها بهدف واحد فقط هو الإشارة إلى الرداءة والقُبح والزيف والسخرية فيما بعد لا منها فقط، وإنّما من قدر الفرد المُجبر على التعايش معها أو مُجاراتها، تمامًا كما هو الحال في عمله غير المُصنّف "صداقة مع ابن فيتغنشتاين" (دار ممدوح عدوان/ دار سرد، 2019/ ترجمة سمير جريس).

اقرأ/ي أيضًا: "تمارين في الإعجاب".. إميل سيوران في مقعد القارئ

يسردُ الكاتب النمساويّ في عمله هذا تفاصيل صداقته مع باول فيتغنشتاين، ابن شقيق الفيلسوف النمساويّ لودفيغ فيتغنشتاين وعلى هامشها، يدوِّن تأمّلاته وأفكاره تجاه أمور مُختلفة مُتعلِّقة غالبًا بحياته وحياة صديقه داخل المصحّات الرئويّة بالنسبة إليه هو المُصاب بالسلّ الرئويّ، والنفسيّة بالنسبة إلى صديقه المُصاب بالجنون، لتكون خلاصة ما توصّل إليه داخل المصحّات أنّ المَخرج الوحيد المُتبقّي لهُ، كما لصديقه أيضًا، وللبشريّة برمّتها، هو أنّه لا أمل أبدًا، وأنّ كلّ شيء لم يكن أكثر من مُجرّد خُدعة لا ينتبه إليها إلّا من يُعاين/ يتفحّص الحياة وتفاصيلها بدقّة بالغة.

قُدِّر لتوماس برنهارد أن يعيش الجزء الأكبر من حياته داخل المصحّات، وأن تتحوّل إقامته داخلها، كما أراد لها أن تكون إلى إقامة في منطقة مُخصّصة للتفكير والتأمّل أحيانًا، وممارسة تهكّمه وسخريته ضدّها وضدّ الأطبّاء والمُمرضين أحيانًا ثانية مُعتبرًا أنّ الأطبّاء النفسيين مثلًا أشدّ خيبة مُقارنةً بالأطبّاء الآخرين، وأنّ الطبيب النفسيّ أقرب إلى سفّاح يتلذّذ بالدماء أكثر من كونه عالِم، مُفسِّرًا بذلك خوفه منهم، وخشيته من وقوعه في أيديهم أيضًا.

إنّ ازدراء أو عداء صاحب "صقيع" للأطبّاء عمومًا يعود إلى سنوات شبابه وفقده لوالدته التي حمّل مسؤولية وفاتها لقسم الأمراض النسائيّة، ثمّ أخذ هذا الازدراء/ العداء يتطوّر بفعل تجاربه الشخصيّة والطويلة داخل المصحّات، أمّا عدائه وخوفه من الأطبّاء النفسيين، فيرتبط بمعاناة صديقه بأول، وطُرق علاجه الدنيئة التي انكبّ برنهارد على دراستها، ليخرج في "نهاية" المطاف بقناعة راسخة مفادها أنّ "الأطباء النفسيين شياطين هذا العصر الحقيقيون" (ص 18).

يُمكن القول إنّ هذه التأمّلات أو الأفكار المُتعلِّقة بأجواء المُستشفيات والمصحّات والأطبّاء، أقرب إلى نوعٍ من التسلية بالنسبة إلى برنهارد، أو نوع من الانشغال بشيءٍ عن شيءٍ آخر والانصراف عنه، خاصّةً حينما يتعلّق الأمر بالأسئلة المُلحّة والمُتراكمة حولهُ، منها سؤال: "لماذا أريد أن أوقف المسار الذي لا بدّ أن أسيره؟ لماذا لا أستسلم كغيري؟ لماذا أبذل جهدًا عندما أستيقظ كي أتشبّث بالحياة؟ (...) أليس من الأفضل أن أستسلم؟" (ص 21)، وهو سؤال ربّما كان الأكثر إلحاحًا لاعتباراتٍ عديدة، أهمّها أنّ الجهد الذي يبذلهُ ليظلّ حيًّا، يتعارض تمامًا مع مقولته: "كنت أحتقر نفسي لأنّني أواصل الحياة".

يُبيِّنُ مؤلّف "الغريق" الأشياء والتفاصيل المُشتركة بينه وبين صديقه باول فيتغنشتاين، كاليأس الذي تمكّن منهما، والطرق المسدودة التي لطالما وصلا إليها، وخطاياهما المُتعلِّقة بمبالغتهما في تقدير ذاتهما والعالم من حولهما أيضًا، الأمر الذي رأى برنهارد أنّه، بالإضافة إلى مُمارستهما أقصى درجات الجموح والعناد، دمّرهما وأطاح بهما، لينتهي بهما الحال داخل مصحّات مُتجاورة، إذ إنّ المصحّة النفسيّة التي نزل بها باول مُجاورة للمصحّة المعنيّة بأمراض الرئة، حيث كان برنهارد يُمارس تأمّلاته وتهمّكه وسخريته أيضًا، ويستعيد في الوقت ذاته تفاصيل علاقته بباول الذي كان يرى ما يظهر على السطح فحسب، ولا يرى من بؤس البشريّة غير الظاهر منها فقط، عكس برنهارد تمامًا.

إنّ الظاهر وفقًا لقناعة المسرحيّ النمساويّ يجعل من أفكاره وقناعاته العدميّة مُجرّد تخاريف، بينما الجوهر يفعل العكس تمامًا، ويوفِّر لهُ مساحة غير تقليديّة للتفكير والتأمّل، ولعلّ المثال الأكثر تعبيرًا عما نذكرهُ هو تحليله للعلاقة بين المريضين والأصحّاء وهي علاقة، إن تأمّلنا ظاهرها، قد لا تقود أو تُنتج الكثير من الأفكار، ولكنّ الركض خلف الجوهر يفعل النقيض تمامًا، وهو ما فعلهُ برنهارد ليخرج بفكرة أنّ المرضى لا يفهون الأصحّاء، وأنّ الأصحّاء لا يفهمون المرضى أيضًا، وأنّ علاقتهما عبارة عن صراع قد يكون قاتلًا، ولكنّ كلا الطرفين هنا لا طاقة لهما لمواجهته.

قُدِّر لتوماس برنهارد أن يعيش الجزء الأكبر من حياته داخل المصحّات، وأن تتحوّل إقامته داخلها، كما أراد لها أن تكون إلى إقامة في منطقة مُخصّصة للتفكير والتأمّل أحيانًا

يقول توماس برنهارد إنّ الأصحّاء يستقبلون: "المريض العائد إلى منزله بلطف ظاهريّ فقط، برغبة ظاهريّة في تقديم العون باستعداد ظاهريّ للتضحية؛ ولكن إذا وضع هذا اللطف على المحكّ الحقيقي، وكذلك الرغبة في تقديم العون، وذلك الاستعداد للتضحية، فمباشرةً تنكشف ظاهريتها، وادعائها. (...) إنّ نفاق الأصحّاء تجاه المرضى هو أكثر أنواع النفاق شيوعًا. ففي الحقيقة لا يريد السليم أن يتعامل من قريب أو بعيد مع المرض، وهو لا يحبّ على الإطلاق – وأنا هنا أتحدّث عن الذين يعانون مرضًا عضالًا – رؤية المريض وهو يعود فجأة إلى سابق حالته الصحيّة" (ص 54/55).

اقرأ/ي أيضًا: رواية "فخ الوجود.. ديريه الماركسي".. استنطاق الشخصية الصومالية

ويختزل برنهارد الصراع بين المرضى والأصحّاء بقوله إنّه صراع قائم حول المكان، فالمريض يشعر حين عودته أنّه يُزاحم فجأة للوصول إلى مكان ليس له فيه ناقة ولا جمل، بينما الأصحّاء على الطرف المُقابل يحتلّون مكان المريض ما إن يحتفي داخل المستشفيات والمصحّات، ويعلنون حيازتهم للمكان رسميًّا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"جمجمة" ناظم حكمت.. نبوءة وبائية مستمرة

إيرج بزشك زاده في "خالي العزيز نابليون".. كيف يقتلنا الخيال؟