28-يونيو-2016

(Getty) جورج أورويل

مرّت علينا في الأسبوع الماضي ذكرى ميلاد الكاتب الإنجليزي الشهير جورج أورويل، ولأنّه مشهور جدًّا حتى صار اسمه يستخدم بتكلّف وتثاقف كذّاب من قبل البعض فقد أحببنا أن نقدّم للقرّاء هذه المقالة التي ظهرت قبل ثلاث سنوات في مجلة الأتلانتيك وأعيد نشرها في ذكرى ميلاد أورويل هذا العام. 


لا يكفّ الناس عن تكرار اسم أورويل وعباراته التي وردت في روايتيه الأكثر شهرة كلّما صدر تقرير عن تجسس الدولة على النّاس وتطفّلها على بياناتهم الشخصية. فكثيرًا ما نسمع بعض المعلقين في برامج الأخبار وكتّاب المقالات وأبطال وسائل التواصل الاجتماعيّ يكررون عبارة "نبوءة أورويل" أو "الأخ الأكبر" وغير ذلك من العبارات المرتبطة بأورويل وباتت مكرورة في الآونة الأخيرة حدّ الملل.

سيسوء أورويل بالتأكيد أن يرى اسمه وعباراته وقد باتت مبتذلة من كثرة الاستخدام وفرط التكرار

صحيحٌ أنّ الناس الذين قرأوا (أو سمعوا عن) روايتي "مزرعة الحيوان" و"1984" يعبّرون عن انتقادهم لأنشطة أجهزة الدولة كتلك التي فضحها إدوارد سنودن مؤخرًا في وثائق ويكيليكس، وللناس حقّ بلا شكّ في رفض هذه الممارسات وانتقادها. ولكنّ صديقنا أورويل سيسوؤه بالتأكيد أن يرى اسمه وعباراته وقد باتت مبتذلة من كثرة الاستخدام وفرط التكرار.

اقرأ/ي أيضًا: استفتاء بريطانيا وجزر مصر.. معارك على كوكب واحد!

والسبب في ذلك هو أنّ أهمّ ما كان يسعى إليه أورويل هو نبذ استخدام الكليشيهات والحذر منها، وهذا ما نبّه إليه بوضوح في مقالةٍ مشهورة له كتبها عام 1946 بعنوان "السياسة واللغة الإنجليزية" حيث قال: "إياك واستخدام أي استعارة أو تشبيه اعتدت على قراءته في الصحف". 

ولو نظرنا إلى السياق السياسيّ لوجدنا أنّ اسم أورويل قد بات يُستخدم بميوعة بالغة في معرض الحديث عن أمور يفترض أنّها لا تعجب أورويل، وفي هذا الأمر مفارقة مؤسفة باعتبار المصير الخطابيّ الذي آل إليه اسم الرجل. هذا الرجل الذي لطالما سفّه الإمعانَ في استخدام المجاز السائر في الكتابة السياسية، حتّى أنّه كثيرًا ما انزعج من استخدام بعض الكلمات التي اختلف الناس على تعريفها من قبيل "البرجوازية" و"التوتاليتارية" وأكّد على ذلك في مقاله آنف الذكر حيث قال: كثيرًا ما يُستخدم هذا الضرب من الكلمات بطريقة مراوغة ومقصودة، فالذي يستخدم مثل هذه الكلمات يمتلك تعريفه الخاصّ لها ولكنّه يترك المجال مفتوحًا للقارئ ليعتقد أنّه يقصد بها أمرًا آخر.... فهنالك كلمات ترتبط بمعانٍ متعددة، وكثيرًا ما تستخدم بأسلوب يبتعد كثيرًا أو قليلًا عن الحقيقة ومنها: طبقة، توتاليتارية، علوم، تقدّمي، رجعيّ، بورجوازية، مساواة. 

إن كلمة "أورويليّ" تتوافق مع ظاهرة لاحظها صديقنا في مقالة له عام 1948 بعنوان "الكتّاب وليفياثان" وذلك من باب أنّها كلمة ذات جانب واحد وحسب، ولا يستخدمها النّاس إلا للإشارة من خلالها إلى سواهم: يكاد الجميع اليوم، حتّى الكاثوليك والمحافظون، يكونون "تقدميين" أو يرغبون على الأقل في أنّ يُنظر إليهم هكذا. ولا تجد أحدًا اليوم، على حدّ علمي، يصف نفسه بأنّه "برجوازيّ"، ذلك أنّه ما من أحد بلغ من الثقافة قدرًا يتيح له أن يسمع هذا الكلمة ويعترف أنّه معادٍ للساميّة. إننا جميعنا ديمقراطيون طيبون، معادون للفاشية، معادون للإمبريالية، لا نرضى بالفروق بين الطبقات، ولا نفرق بين الناس على أساس اللون، إلى آخر ذلك من كلام. 

من المستحيل التوافق على تعريف مُرضٍ للفاشية من دون بعض التنازلات التي لا يرضى بها لا الفاشيون ولا المحافظون ولا الاشتراكيون

لو كان هنالك ما هو "أورويليّ" أو يمثّل "الأخ الأكبر" في تلك الأيام لكانت "الفاشيّة". فقد قال أورويل في مقالة له عام 1944 بعنوان "ما الفاشيّة؟" :... ولكن الفاشية نظام سياسي واقتصادي أيضًا، فلم لا يتوفر لدينا تعريف واضح ومقبول بشكل عام لهذا المصطلح؟ يا للخسارة! إننا لن نحصل على ذلك، ليس الآن على الأقل، والمقام لا يسع هنا لبيان سبب ذلك، ولكني أقول باختصار إنّه لمن المستحيل التوافق على تعريف مُرضٍ للفاشية من دون بعض التنازلات التي لا يرضى بها لا الفاشيون ولا المحافظون ولا الاشتراكيون. وكل ما بوسع المرء فعله الآن هو استخدام هذه الكلمة بقدر من التحرّز، وتجنّب إيرادها جزافًا لتصبح هي والشتيمة سواء، كما هو الحاصل الآن.
 

ولكن هل من خطورة في أن تصبح كلمة "أورويليّ" عبارة مبتذلة في كليشيه مفرّغ من المغنى؟ الجواب وفق كتابات أورويل هو نعم! لقد كانت الإشارة إلى اللغة السياسية الرخوة ذات الأثر المدمّر عنصرًا أساسيًا في رواية أورويل مزرعة الحيوان، وذلك كما بدا حين تحوّل شعار "أربع أقدام أمرٌ حسن، قدمان أمرٌ سيئ" إلى "أربع أقدام أمر حسن، قدمان أمرٌ أفضل" كما يظهر في الرواية. 

تحوّل اسم شخصيّة مثقّفة من طراز أورويل لتدلّ على مجموعة ملغزة من العبارات والأمور التي يعارضها الكاتب نفسه أصلًا لن يكون بالأمر المفاجئ لأورويل لو أنّه لا يزال بيننا

ولكن لعلّ تحوّل اسم شخصيّة مثقّفة من طراز أورويل لتدلّ على مجموعة ملغزة من العبارات والأمور التي يعارضها الكاتب نفسه أصلًا لن يكون بالأمر المفاجئ لأورويل لو أنّه لا يزال بيننا. لقد كان كثيرًا ما يقول أورويل إن الكتّاب والخطباء يستغلون استخدام بعض المصطلحات الرنّانة وما يكسوها من مصداقيّة للترويج لأفكار أخرى مستهجنة. ولا تزال هذه هي الحال حتّى الآن، فالحذرَ الحذر.