01-ديسمبر-2021

تزفيتان تودوروف (1939 ـ 2017)

خلاصة القرن العشرين

في كتابه "الأمل والذاكرة"، (العبيكان، ترجمة نرمين العمري)، يقول تزفيتان تودوروف إن الأدب الإنساني الحديث يتميز بسمتين متلازمتين: الأولى هي قدرة الإنسان على ارتكاب الأهوال، والثانية هي التأكيد على إمكانية عمل الخير. وإذا كان القرن العشرون سخيًا في إعطاء الأمثلة على السمة الأولى، فإن تودوروف يقدم شهود عيان كثيرين يصادقون على السمة الثانية.

العنوان الأبرز للقرن العشرين هو صعود الأنظمة الشمولية، لأن هذه الظاهرة قد حفرت عميقًا في ذاكرة البشرية

يستعرض الكاتب وجوه القرن العشرين: تحرير المرأة، الانخفاض الكبير في نسبة الوفيات بين الأطفال، ارتفاع متوسط الأعمار في الدول المتقدمة، التطور التقني المهول: هيمنة الطاقة الذرية؛ فك رموز علم الوراثة؛ تبادل المعلومات بشكل الكتروني؛ التلفاز.. لكنه يختار وجهًا آخر ليجعله العنوان الأبرز للقرن المنصرم ألا وهو صعود الأنظمة الشمولية، ذلك أن هذه الظاهرة قد حفرت عميقًا في ذاكرة البشرية، كما أنها مشحونة بالدلالات والإشارات التي سوف ترافقنا في قرننا الحاضر، القرن الواحد والعشرين. وإضافة إلى قراءات تحليلية مطولة، فثمة شهادات لستة أشخاص، يروي تودوروف القرن من وجهة نظرهم: فاسيلي غروسمان، مارغريت بوبر نيومان، دافيد روسيه، بريمو ليفي، رومان غاري، جيرمين تييون. يعصر أوراقهم وذواكرهم ليقطر منها دروسًا حكيمة ينبغي للبشرية أن لا تنساها أبدًا.

اقرأ/ي أيضًا: تزفيتان تودوروف.. صوت متفرد في زمن "البرابرة"

تزفيتان تودوروف (1939 ـ 2017) ناقد ومفكر فرنسي من أصل بلغاري. له أكثر من عشرين كتابًا في نظرية الأدب ونظرية الثقافة وتاريخ الفكر، وقد اهتم باللسانيات، كما طاف، دارسًا ومدرسًا، على مختلف مدارس النقد المعاصرة.

 يتذكر المؤلف، في كتاب "الأدب في خطر"، (توبقال، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي)، سنوات طفولته الأولى في صوفيا (بلغاريا) والتي قضاها بين أكوام من الكتب، ولسنوات بعد ذلك ظلت الروايات والقصائد والمسرحيات محور حياته، الشيء الذي جعل انتسابه إلى كلية الآداب أمرًا محتومًا فـ "الكلام عن الكتب سيكون مهنتي"..

وفي أوائل الستينات ذهب في بعثة دراسية إلى باريس، حيث سيستقر ويحصل على الجنسية الفرنسية، وهناك تعرف إلى رولان بارت ليغدو الاثنان من ألمع الأسماء في "البنيوية"، المدرسة النقدية الحداثية التي سوف تسود الأوساط الثقافية حتى السبعينات. ولكن تودوروف يقدم في "الأدب في خطر" ما يشبه الاعتذار عن دوره الكبير في النقد الحداثي، ذلك أن النقاد الذين اقتفوا أثر "الشكلانيين الروس" وتبنوا "البنيوية" وغيرها من المدارس النقدية، أهملوا كل ما يتصل بالمضمون من أفكار وقيم وتجارب اجتماعية أو نفسية، مكتفين بدراسة الشكل (أساليب وتقنيات وأنساق سردية..)، كما أنهم أنكروا أي صلة تربط النص الأدبي بالواقع، مشجعين الأدباء على الاهتمام بتقديم ذواتهم فقط (وهو ما يسميه تودوروف الأنانة)، أما المدرسة التي اعترفت بمعنى للنص الأدبي (التفكيكية)، فقد رأت أن هذا المعنى هو فقط "أن لا وجود لأي معنى في هذا العالم".. وهكذا اكتملت الدائرة المطوقة للأدب، والذي صار أسيرًا للشكلانية والأنانة والعدمية.

لم يبق تودوروف أسيرًا في نادي النخبة الضيق هذا، إذ خرج إلى دائرة الاهتمام الأوسع فانشغل بقضايا سياسية واجتماعية وتاريخية عديدة

لحسن الحظ فإن تودوروف لم يبق أسيرًا في نادي النخبة الضيق هذا، إذ خرج إلى دائرة الاهتمام الأوسع فانشغل بقضايا سياسية واجتماعية وتاريخية عديدة، وألف عددًا معتبرًا من الكتب في هذه المجالات ما جعله يستحق اللقب الذي حازه: مفكر إنساني.

اقرأ/ي أيضًا: تزفيتان تودوروف.. صرخة مفكر في وجه تطرف الغرب

مسألة الآخر

ليس "فتح أمريكا.. مسألة الآخر"، (سينا للنشر، ترجمة بشير السباعي)، كتابًا في التاريخ، وإنما بحث في التاريخ عن قضية ثقافية بعينها، هي مسألة الآخر، واستقصاء لتطورها واتجاهاتها ومآلاتها. وليس أفضل من "فتح أمريكا" كنموذج ملائم لذلك، فقد صُدمت ذات الغرب (إسبانيا أساسًا) إذ وجدت نفسها إزاء آخر غير متوقع وغير مألوف. ويمكننا عكس العبارة بالطبع: لقد صُدمت ذات السكان الأصليين وقد ألفت آخر غريبًا ومحيرًا وقد صار على أرضها.

فكيف كان هذا اللقاء الاستثنائي؟ كيف تعاطى كل من الطرفين مع الآخر؟ كيف فهمه وحاول إفهامه؟ ما هي الرموز والعلامات التي استخدمت في هذا الاتصال الفريد؟

يروي تودوروف حكاية كورتيس، فهذا "الفاتح" الإسباني سوف يدشن قاعدة أساسية في ظاهرة الاستعمار: المعرفة التي تنتج سلطة. الفهم الذي يؤدي إلى الاستيلاء الذي يؤدي إلى التدمير.. لقد ثابر كورتيس على فهم لغة السكان الأصليين وفك رموزهم وعلاماتهم، ودراسة عقائدهم والعلاقات السائدة بينهم.

ولكن لماذا يقود فهم الآخر إلى الاستيلاء عليه ومن ثم تدميره؟ يجيب تودوروف: لأن الذات لم تفهم الآخر على أنه ذات بدوره، بل آخر خارجي، موضوع لا ذات له، فهو إذًا أدنى ولا يستحق الالتفات إلى رغباته وحاجاته وأحلامه وأفكاره.. عبر هذه المعادلة، ووفق هذا الفهم، ارتكبت فضائع لا تحصى على يد الفاتحين: مجازر واغتصاب ونهب وإحراق كتب وتدمير معابد..

يرى تودوروف أن عصر الأنوار لا يزال صالحًا لتقديم إجابات مفيدة عن أسئلتنا الراهنة

وخلافًا لمؤلفين كثر، فتودوروف لا يرسم، بالمقابل، صورة مثالية للشعوب المقهورة، للأزتيك وللمايا وغيرهما، فعند هؤلاء نمط ثقافي واجتماعي ينطوي على العديد مما لا يستطيع المرء الدفاع عنه: تقديم البشر قرابين للآلهة، عبودية المرأة، الاستلاب الكامل أمام الأسلاف، تغييب الفرد لصالح الجماعة.. ما يقودنا إلى الوقوف أمام نمطين، حضارتين: حضارة القرابين مقابل حضارة المجازر. فهل علينا أن نختار بينهما؟.

اقرأ/ي أيضًا: أثر الناقد.. نموذج تودوروف

يُستَهل الكتاب بهذه القصة: "خلال الحرب، أسر القائد آلونسو لوبيث دي آبيلا امرأة هندية شابة، حسناء وفاتنة. وكانت قد وعدت زوجها، الخائف من أن يقتل في الحرب، بأنها لن تكون لأحد سواه. وهكذا فإن أية محاولة للإقناع ما كان لها أن تنجح في ثنيها عن الرحيل عن الحياة بدلًا من أن تسمح لنفسها بأن يدنس جسدها رجل آخر. وهذا هو السبب في أنهم قد ألقوا بها إلى الكلاب".

ومع هذه القصة نفسها تكون نهاية الكتاب: "لقد ماتت امرأة من المايا ملتهمة من الكلاب. وحكايتها هي تكثيف لأحد الأشكال المتطرفة للعلاقة مع الآخر.. وما أرجوه ليس أن ترمي نساء المايا من تصادفن من الأوربيين إلى الكلاب لتلتهمهم (وهو اقتراح غير معقول بالطبع). بل أن نتذكر ما ينذر بأن يحدث إن لم ننجح في اكتشاف الآخر".

روح الأنوار

في كتابه "روح الأنوار"، (توبقال، ترجمة حافظ فويعة)، يرى تودوروف أن عصر الأنوار لا يزال صالحًا لتقديم إجابات مفيدة عن أسئلتنا الراهنة، ما يجعله مصدرًا خلاقًا وخصبًا لصياغة الإطار الفكري والأخلاقي اللازم لحياتنا المعاصرة.

قام مشروع الأنوار على ثلاثة أفكار رئيسية هي: الاستقلالية، والغائية الإنسانية لأفعالنا، والكونية. وتتمثل الاستقلالية في جعلنا نفضل ما نختاره ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا.

قام مشروع الأنوار على ثلاثة أفكار رئيسية هي: الاستقلالية، والغائية الإنسانية لأفعالنا، والكونية

مبدأ الاستقلالية قاد إلى الحد من سلطة الماضي لصالح المشروع المستقبلي، وأبطل طغيان التقاليد الموروثة لحساب العقل والتجربة، فتحررت المعرفة وازدهر العلم، ونشأ ميل إلى العلمنة (أي فصل الزمني عن الروحي)، وصار الإنسان مستحقًا للتقدير كما هو كائن بالفعل لا كما يجب أن يكون..

اقرأ/ي أيضًا: أدب من هذه الأرض

لكن تودوروف يؤكد أن روح الأنوار لا يمكن اختزالها بمطلب الاستقلالية وحده، فـ"الأنوار جاءت ومعها أدواتها النقدية التي تساعد على التعديل.. تعديل مسارها هي بالذات". وأولى هذه الأدوات هي غائية الأفعال الإنسانية، فإذا كانت أفعال البشر قد تخلصت من هيمنة التقاليد البالية والغيبيات والغايات الميتافيزيقية، فهذا لا يعني أنها أصبحت بلا غايات على الإطلاق. بل أن الغائية توجهت نحو الإنسان نفسه، سعادته ورفاهيته، استقرار المجتمعات، وإمكانية تطورها وازدهارها..

أما الأداة النقدية الثانية فهي الكونية، ذلك أن الإنسان، وبحكم كونه إنسانًا ودون أي تعيين آخر، له حقوق مقدسة لا يجوز التعدي عليها أو الانتقاص منها..

من الانتقادات التي توجه عادة إلى الأنوار أنها قد وفرت المستندات الأيديولوجية للاستعمار الأوربي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وأنها أسست، عن غير قصد، للأنظمة الشمولية في القرن العشرين..

يتصدى تودوروف لدحض هاتين التهمتين وغيرهما، مستعينًا بنصوص لرموز عصر الأنوار: روسو ومونتسكيو وكوندورسيه.. وآخرين، ولكنه يقر أن "الاعتداءات على الأنوار قد لا تنتهي أبدًا ومن حقنا أن نخشى ذلك". ومع ذلك هو يختم بأن "الأنوار لا يمكنها أن تمضي لأنها صارت لا تشير في نهاية المطاف إلى مذهب محدد تاريخيًا فحسب، بل كذلك إلى موقف من العالم.. فالأنوار ما زالت معاصرة لنا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا يستطيع الأدب؟

عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي