يبحث الإليزيه عن مخرجٍ لتسوية المشاكل التي اعترتْ العلاقات الفرنسية الجزائرية مؤخرًا، لكن تلك الرغبة تصطدم بمعوّقات من داخل الحكومة الفرنسية نفسها، فوزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو لا يتوانى عن صب المزيد من الزيت على نار الخلافات بين باريس والجزائر إرضاءً منه لليمين واليمين المتطرف.
يبحث الإليزيه عن مخرجٍ لتسوية المشاكل التي اعترتْ العلاقات الفرنسية الجزائرية مؤخرًا، لكن تلك الرغبة تصطدم بمعوّقات من داخل الحكومة الفرنسية نفسها
ومع ذلك لا يمكن ربط التوتر الذي تعرفه العلاقات الفرنسية الجزائرية باستراتيجية وزير الداخلية الفرنسي لوحدها ولا بالمضايقات التي يتعرض لها الجزائريون في فرنسا، وآخرها المعاملة التي وُصفت بالمهينة جزائريًا لمواطنين جزائريين في مطاريْ رواسي وأورلي وتمّ على إثرها استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر للاحتجاج رسميًا على تلك المعاملة.
فجذور المواجهة الحالية بين باريس والجزائر تعود إلى منتصف عام 2017 وبالتحديد بوصول الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه، فعلى الرغم من تعبير ماكرون عن إرادته إعطاء ديناميكية جديدة للعلاقات الجزائرية الفرنسية الفاترة، إلّا أن تلك الرغبة سرعان ما اصطدمت بعقبات، الأمر الذي جعل رؤية الصقور على الجانبين هي الغالبة، حيث دأبت أصوات جزائرية على اتهام باريس برعاية مؤامرة هدفها الانتقام من حرب الاستقلال عبر ركوب الحراك الشعبي 2019، وفي المقابل كان المحافظون في الإدارة الفرنسية يدفعون ماكرون إلى التصعيد ضدّ السلطات الجزائرية، وقد استجاب ماكرون لذلك الضغط بخروجه عام 2021 منتقدًا ما أسماه "النظام الجزائري القاسي جدًا الذي يضيّق الخناق على الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون"، في إشارة من ماكرون إلى الأدوار الخفية للجنرالات في شؤون الجزائر السياسية، لكن في محاولة أيضًا من ماكرون لزرع "شقاقات" داخل مؤسسة الحكم الجزائرية.
لكنْ ما لم يكن ماكرون يضع له حسابًا هو أنّ الانتخابات البرلمانية السابقة لأوانها التي دعا إليها منتصف العام الماضي ستحرمه من أغلبيته في الجمعية الوطنية الفرنسية، وستضطره إلى البحث عن تحالفات أو تفاهمات جديدة في اليمين واليمين المتطرف الذي يتبنى نزعة عدائية للجزائر بسبب حنينه للماضي الاستعماري، ويتعلق الأمر بحزب "الجمهوريين" وحزب التجمع الوطني المتطرف بقيادة مارين لوبان.
أوْفد ماكرون نيكولا ليرنر، رئيس مديرية الأمن الخارجي إلى الجزائر عقب التوترات الأخيرة
وفي المقابل يرى الصحفي والمدير السابق لمجلة "لينوفيل إيكنوميست" جان بيار سيريني أنّ الجزائر الرسمية بذلت "كلّ ما في وسعها لعزل نفسها عن الرأي العام الفرنسي" إذ اتخذت "من اليسار عدوًّا يلومها على ملاحقة الصحافيين والنشطاء، وعزلت نفسها عن الشباب وعالم الثقافة بطابعها المحافظ اجتماعيًا ودينيًا، كما أدّت نزعتها القومية إلى فقد الاتصال باليمين الحكومي، لتُفاجَأ الجزائر بعدها برسالة ماكرون في 31 تموز/يوليو 2024 يدعم فيها الملك محمد السادس في قضية الصحراء الغربية التي تسيطر القوات المسلحة الملكية على معظم أراضيها".
بالمحصلة أدّت تلك التطورات إلى تخلي فرنسا عن حيادها بشأن ملف الصحراء الغربية، وهو حياد استمر لأكثر من ثلاثة عقود، باعترافها بالسيادة المغربية عليها. وجاء هذا الموقف الفرنسي والجزائر تستعدّ حينها لتنظيم انتخابات رئاسية أسفرت في أيلول/سبتمبر الماضي 2024 عن فوز تبون بعهدة رئاسية ثانية.
ردّت الجزائر بمجموعة إجراءات كان من بينها "استدعاء السفير الفرنسي لديها وحرمان الشركات الفرنسية في الجزائر من خطابات الاعتماد المصرفية لمدة أسبوع، كما جُمَّدت العلاقات بين جهازيْ الاستخبارات".
وأضاف اعتقال الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في مطار هواري أبو مدين تعقيدات جديدة لمشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية.
أضاف اعتقال الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال نوفمبر الماضي في مطار هواري أبو مدين تعقيدات جديدة لمشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية
وقد استغلّ وزير الداخلية في الحكومة الفرنسية برونو روتايو هذه المعطيات لتأزيم العلاقات الجزائرية الفرنسية أكثر، "فمنذ تعيينه أيلول/سبتمبر، أعلن بوضوح عن نيته في تصفية الحسابات مع الجزائر، خاصة فيمَا يتعلق بمسألة الجوازات القنصلية -التي من الصعب الحصول عليها- وتُعدّ ضرورية لتنفيذ قرارات مغادرة التراب الوطني الصادرة عن السلطات الفرنسية".
وقد وجد روتايو ضالّته في إلقاء القبض على 4 جزائريين، دخلوا في ملاسنات قوية على تيك توك، حيث تجاوز روتايو السلطة القضائية وقام بطرد "أكبرهم سنًا وهو عامل نظافة ورب أسرة في الخمسين من العمر"، لكن "التيكتوكر" الجزائري عاد إلى باريس على متن نفس الطائرة، في خطوة اعتبرها وزير الداخلية الفرنسي "إذلالًا مارسته الجزائر على فرنسا"، وفي ثورة غضبه من الإجراء الجزائري ندّد روتايو مجددًا "بالاتفاق الفرنسي الجزائري لسنة 1968 حول الهجرة، كما ندد أيضًا بإعفاء حاملي جوازات السفر الدبلوماسية من طلب تأشيرة الدخول، مطالبًا كإجراء انتقامي بخفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، وفوق ذلك طالب بفرض رسوم جمركية إضافية على الواردات الجزائرية إلى فرنسا، مع أنّ هذا الأمر هو اختصاص حصري للاتحاد الأوروبي في بروكسل منذ معاهدة روما سنة 1957".
يشار إلى أن وزير الداخلية الفرنسي أعلن الأسبوع المنصرم عن اعتقال صانع محتوى جزائري، قبل أن تصدر النيابة العامة قرارًا بأنه ”لا يوجد أي شيء ضده في هذه المرحلة، وبالتالي فهو ليس رهن الاعتقال لدى الشرطة".
على ذات المنوال اقترح بيير لولوش وهو وزير فرنسي سابق "إلغاء جميع التأشيرات وتصاريح الإقامة لمدة 3 أشهر قابلة للتجديد، ووقف التحويلات المالية إلى الجزائر، وإلغاء مساعدات التنمية العامة (200 مليون دولار سنويًا) وإغلاق الحدود، في انتظار أن تطلق الجزائر سراح صنصال، وتلتزم باستعادة رعاياها المطرودين، وتوقف التصريحات المهينة ضد فرنسا وقادتها" وفقًا لتصريحات له نشرتها لوفيغارو.
لا يبدو ماكرون مستعدًّا لمثل هذه الخطوات، رغم أنّها جاءت من طرف وزير في حكومته، حيث بادر بإرسال المفاوض السري نيكولا ليرنر، رئيس مديرية الأمن الخارجي إلى الجزائر، كما بادر وزير خارجيته جان نويل بارو، إلى نفي وجود أي توتر بين فرنسا والجزائر مشيدًا بالعلاقات بين البلدين، متحدثًا عن زيارته المرتقبة للجزائر، وفي ذات السياق أعرب وزير الدفاع سيباستيان ليكورنو، عن أمله في "تجديد العلاقات بين الجزائر وفرنسا" وهو مسعى أكثر طموحًا حتى اللحظة من بين جميع الدعوات الفرنسية.