09-ديسمبر-2018

غرافيتي في حمص (فيسبوك)

على الرغم من التبرير البسيط في الصفحة الأولى المُسمّاة "قبل التقديم"، والذي يوضح اختلاط مفهوم الواقع والأحلام عند الكاتب، إلا أن العنوان الثاني أو الفرعي للكتاب "كوابيس سورية" يبدو زائدًا، ولا حاجة له بعد العنوان الرئيسي الأشمل: "تهويمات".

كتاب همام كدر "تهويمات" (دار أطلس، 2016)، يبرّئ نفسه باكرًا، يدفع عنه ما قد يصيبه من تُهَم النقاد و"سوق" الأدب عن كونه كتابًا بلا نوع. يقطع الطريق على الحَرْفيين والتقليديين والمتربصين على حدّ سواء، ويحرر نفسه باعترافٍ استباقي في المقدمة يصفُ محتواه بأنه "نصوص غير مترابطة، ولا جنسَ أدبيًا واضحًا لسطورها". ولكن من قال إن النأي بالنص عن الأشكال الأدبية المُتعارف عليها تهمةٌ تحتاج إلى تبرير؟ أليس من الممكن أن تكون "الحرية الشكلانية" هي القالب الأمثل لفوضى مشاعرنا وأفكارنا وكوابيسنا وسط هذا العالم المجنون؟

من قال إن النأي بالنص عن الأشكال الأدبية المُتعارف عليها تهمةٌ تحتاج إلى تبرير؟

منذ الصفحات الأولى تبشّرنا نصوص "تهويمات" بنوع من التخلّي عن السائد في الكتابة والنشر، وقد يكون ذلك أحد أسباب تأخُّرِها في حملنا على الاندماج في عالمها. سنحتاج إلى بضعة صفحات أخرى كي نجد أنفسنا في عالم همام كدر، ثم سندخل دخولًا مَهيبًا من بوابة حمص من خلال النصَ المُسمى "المدينة المجدلية".

اقرأ/ي أيضًا: مارادونا في حمص

ستتكرر هذه التسمية لمدينة حمص في أكثر من موضع في الكتاب، وستحضر مدينة الكاتب بشوارعها وحاراتها ومُبدعيها بكثافة في معظم النصوص: "صوت فرحان بلبل وعلاء عبد المولى وياسر المظلوم، في فنونهم المتنوعة لا يزال يجلجل في طبقات اللاوعي عندي، فتقام زلازل لا نهاية لخرائبها، شأنهم شأن آلاف الحماصنة الجالسين على كراسيهم أمامي الآن يحرّكون حبات رمل الذاكرة، كأن حجراً من بيوتهم لم يقع بعد".

لكن حب حمص وإحياء الكاتب لذكرياته معها ومع لهجاتها وناسها وعاداتها لن يحجب حبّه لمدنٍ سورية أخرى كالرقة ودير الزور وحلب، ودمشق طبعًا. "بيروت شبيهةٌ، وكذلك بغداد، وعمّان، ولكن... لا أخت توأم للشام".

لا يُخفي الصحفي الرياضي نفسَه في الكتاب، همام كدر "الكرماوي" (نسبة إلى فريق الكرامة الحمصي) العتيق والعامل في مجال الإعلام الرياضي منذ سنوات يستعملُ بسماحة مفرداتٍ وتعابيرَ رياضية، ويتحدث في كتابه الأدبي عن ذكرياته وأمنياته الكروية، يقولها أحيانًا بجدية المشجعين الأصلاء ويسوقها أحايينَ أخرى بطرافة: "أي نبيّ توقّع خسارة البرازيل بموّال ألماني سبعاوي جاء بنا إلى الهاوية؟ وكم من المعجزات يحتاج الموضوع لإعادة المباراة من حيث بدأت، ويا دار ما دخَلك غول!؟"، و"بيدي أتلقّفُ كأس العالم من يد جوزيف بلاتر وأقول له جهارًا لا همسً وأمام مرأى العالم أجمع: "مِن يدٍ نعدمها"... عدمُ يد بلاتر هذه وحدها تحتاج إلى معجزة وأنبياء جدد".

وإلى جانب الملمح الرياضي تتسم نصوص كدر بملمح ديني، لكنه لا يظهر بوجهه الإيماني أو العقائدي. فالكاتب يشير في أكثر من مكان إلى انعتاقه من الفكرة التقليدية للدين وإلى مَيله أو إعجابه بطقوس أو "أدبيات"، حسب وصفه، انتقاها لنفسه من أكثر من دين. إنما يحضر هذا الملمح الديني بصفته موروثًا تربويًا وثقافيًا طبع بيئة الكاتب ولغته، فعاشت أساطيره في خيالاته كقصصٍ شعبية غنيّة بالعِبر، قابلة للإسقاط والإحالة: "طلبتُ ماءً فذقتُ خلًّا/ حربةٌ أخرى كل عام ليتأكدوا أني متُّ نهائيًا/ ليس لي أتباعٌ إلا ظلّي/ ولا كنيسة باسمي إلا دمشق".

وعلى الرغم من الغشاء "الشخصي" السميك الذي يوحي بأن الموضوعات خاصة أو ذاتية، إلا أن تهويمات، في قراءة مُتأنية، تجعلُ من الفردي جَمعيًّا، وتلامس ذلك الشيء الغامض العميق الذي يستقرُّ في قيعان القلوب ليجعلها تتشابه. حيث يكتب همام كدر عن السفر والاغتراب، عن الطفولة والمراهقة والأصدقاء، عن الظلم وأسئلته المعلّقة دومًا بلا جواب، عن الخوف والحرب، عن اقتتال الأخوة، عن العائلة والأم والأب: "الآن عرفتُ لماذا يخلقُ اللهُ الآباء، لأن السماء لولاهم ستطبق علينا، الأنبياء وحدهم لا يكفون، في كل عاصفة سيضع الأب زنديه مع الآباء الصالحين كي لا تقع علينا الكواكب".

كتاب "تهويمات" إذًا خارج التصنيف؛ تتناوب فيه النصوص مع العبارات المستقلة على مدى ثمانين صفحة، يجمعُ بين الخاطرة والبوح والمذكرات والنصّ المُرسَل والروح الشعرية الرقيقة، لا يهتمّ كثيرًا بتهذيب المسوّدات، يتجاور فيه "العادي" مع "اللامع" فيبدو متفاوِتًا من حيث الصنعة الفنية. لكن الكاتب، كما يبدو، لم يكن مشغولًا بجماليّة عمله قدر انشغاله بنفسه ومشاعره وأفكاره. لم يفكّر بالناقد، ربما ولا بالقارئ، بل انشغل عنهما بالتفكير في الآخر؛ الآخر/ الصديق، الآخر/الأخ، الآخر/الجار، الآخر/ الابن، وحتى الآخر/العدو.

في كتاب "تهويمات"، حب حمص وإحياء الكاتب لذكرياته معها ومع لهجاتها وناسها وعاداتها، لن يحجب حبّه لمدنٍ سورية

نقفُ أثناء تجوالنا بين دفّتَي الكتاب على عتباتٍ للحديث عن الموسيقى والحب والحرية والسياسة والعالم المتحضّر من دون أن يستفيضَ الكاتب في أيّ منها، بل يمضي في تهويماته، و"يحرّرها" كما خطرتْ له بكل صدقها ومكاشفاتها. يتعثّر الأسلوب أحيانًا بالمباشرة فتبدو بعض العبارات فجّة أو وعظيّة، ويبرقُ في مواضع أخرى بصورٍ تقوم على الالتقاطات العميقة.

لكن علينا حتمًا أن نشير إلى أن هذه النصوص كتبت على مدار سنوات طويلة نسبيًا (2008 - 2015) ونُشر بعضها على شكل مقالات في صحف ومواقع عربية. وقد يكون أحد أسباب تفاوت جودتها وأسلوبها هو هذا الزمن الممتد على طول سنواتٍ سوريةٍ تحوّلية انزاحتْ فيها أشكال التعبير، كما هُدمتْ مفاهيم وسقوف وارتفعتْ أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: في جهة الشام المُتخيلة

أما بالنسبة للمهاجرين والبعيدين، فلا يُنصح بقراءة هذا الكتاب لا أثناء رحلةٍ في قطار ولا على ضفاف بحيرةٍ باردة، تجنبًا لمضاعفة وجع المسافة وقسوة الصقيع. "تهويمات" همام كدر تُقرأ في مكان دافئ وأنيس لأن تيارًا عاصفًا من الحنين سيهبُّ في تجاويف العقل والقلب كلّما تقدّمنا في سطور هذا الكتاب.

"أتذكّر نفسي جيدًا في حمص/ كنتُ أسرعَ وأرشقَ، وأخفُّ ثقلًا على الأرض/ أخرجُ بلا هدف لبضع دقائق، فلا أعود إلا ومعي ثلاثمائة سلام لأبي، وألفُ سؤالٍ عن أمي. ليس بوسع الرفاق أن ينتهوا في حمص/ أن يملّوا من جلسات لا نهاية لها/ وكان لدينا الوقت للحلم والفراغ وكرة القدم/ ليس بوسع الحنين أن يخفّ أو يقلّ أو يولّي بريقه".

 

اقرأ/ي أيضًا:

السوري وحش السوري

سوريا.. في انتظار منطقة خضراء