24-يناير-2020

تبلغ قيمة التهرب الضريبي في لبنان خمس مليارات دولار سنويًا (DPA)

يعاني النظام الاقتصادي في لبنان تدهورًا كبيرًا، تنعكس آثاره على الشرائح الأكثر فقرًا، الرازحة تحت وطأة الضرائب المتفاقمة المباشرة وغير المباشرة، والتي يزداد التهرب منها بين أصحاب رؤوس الأموال والنافذين.

يعرف لبنان انتشارًا كبيرًا للتهرب الضريبي، إذ تبلغ تكلفته السنوية أكثر من خمس مليارات دولار أمريكي

ويعرف لبنان انتشارًا كبيرًا للتهرب الضريبي، يحرم خزينة الدولة من المليارات سنويًا، فبحسب تقرير لبنك عوده نشر في 2018، تبلغ التكلفة السنوية للتهرب الضريبي أكثر من خمس مليارات دولار أمريكي، أي ما يساوي تقريبًا 10% من إجمالي الناتج المحلي. ويأتي التهرب من ضريبة الدخل والتهرب من الجمارك على رأس أبواب التهرب الضريبي، يليهما التهرب من ضريبة القيمة المضافة فالكهرباء ثم التسجيل العقاري.

اقرأ/ي أيضًا: أموال اللبنانيين في ذمة المصارف والسياسيين

وخلق التهرب الضريبي في لبنان ما باتت تعرف بثقافة "أبو شنطة"، في إشارة إلى خبراء المحاسبة المتواطئين مع الشركات وكبار رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال، في التلاعب بالفواتير والتقارير المالية.

"أبو شنطة" ونقابة خبراء المحاسبة

يُعنى خبراء المحاسبة بالتدقيق في حسابات دافعي الضرائب الكبار، وتقييم بياناتهم المالية المقدمة للجهات المعنية بجباية الضرائب. ويلعب خبراء المحاسبة الدور الأكثر حساسية في عمليات التهرب الضريبي في لبنان، بالمخالفة للقانون.

التهرب الضريبي في لبنان
يكلف التهرب الضريبي في لبنان أكثر من خمس مليارات دولار أمريكي سنويًا

وينص قانون تنظيم خبراء المحاسبة المجازين في لبنان على "تأديب الأعضاء الخارجين عن القانون وعن واجبات المهنة الأدبية". لكن وفقًا لخبير محاسبة تحدث لـ"الترا صوت"، فإن نقابة خبراء المحاسبة في لبنان "لها دور في تفشي ظاهرة أبو شنطة، بغضها الطرف عن ممارسات خبراء المحاسبة"، ما قد يدخل تحت مظلة جريمة إهدار المال العام.

أنواع المحاسبين

عادة ما يكون مسؤولًا عن تنسيق عمليات التهرب الضريبي، خبراء المحاسبة المنتسبين للنقابة، والمخول لهم مزاولة جميع أعمال المحاسبة، بخلاف غير المنتسبين للنقابة الذين لا يحق لهم سوى ممارسة بعض أعمال المحاسبة لصالح شركات الأفراد، بينما يحظر عليهم العمل لصالح شركات الأموال.

كما أن هناك فرق بين المحاسب الموظف في شركة، فيتبع بشكل كامل لإدارتها، وبين خبير المحاسبة أو من يعرف أيضًا بـ"المدقق الخارجي"، والذي يعمل على مراجعة وتدقيق البيانات المالية للشركات قبل تقديمها للضرائب.

التلاعب بالبيانات المالية

وفقًا لخبيري محاسبة تحدث إليهم "الترا صوت"، فضّلا عدم ذكر اسميهما، فإن المتهربين من دفع الضرائب، سواءً كانوا شخصيات حقيقية أو معنوية، يعتمدون على التلاعب في البيانات المالية الخاصة بهم.

وتعمل الشركات على التلاعب في بيانات أرباحها بتخفيضها، وزيادة نسبة المصروفات مقابل الإيرادات، وإخفاء بيانات الإيرادات الحقيقية. وعادة ما يرتب خبير المحاسبة هذه التقارير بالتواطؤ مع إدارة الشركة، أو على الأقل، في بعض الحالات، يتغاضى عنها، وفي كلا الحالتين تكون هناك "نية تواطؤ" من قبل خبير المحاسبة، وفقًا للمصدرين. 

"في حالات أخرى، يعمد خبير المحاسبة على التوقيع بشكل سريع دون تدقيق ومراجعة حقيقية للبيانات المالية للشركة. في هذه الحالات ربما لا تكون ثمة نية تواطؤ من قبل خبير المحاسبة أكثر من كونه تكاسلًا عن أداء العمل كما يجب"، يقول أحد خبيري المحاسبة.

التهرب الضريبي في لبنان
في كثير من الحالات يتواطأ مراقبو وزارة المالية مع الشركات للتهرب الضريبي

وعلى ذلك، فإن الشركات المتهربة ضريبيًا، تعمد إلى إصدار مستندين ماليين، الأول المقدم لوزارة المالية، والآخر المعتمد داخل الشركة، والذي يستعرض البيانات المالية الصحيحة. ووفقًا لأحد خبيري المحاسبة، فإن هذا الأمر "أدى إلى وجود سوق موازية، تقوم بأعمالها كاملة خارج الإطار الرسمي للدولة".

بمعنى آخر، نشأت داخل المنظومة المالية الرسمية، منظومة مالية موازية، غير قانونية لكونها قائمة على مال عام مُهدر، وتضخمت بشكل يؤثر مباشرة على المواطنين، مستندة بشكل أساسي على "أبو شنطة". 

مسؤولية النقابة

تقع على عاتق نقابة خبراء المحاسبة مسؤولية أساسية في عمليات التهرب الضريبي التي ينسقها خبراء المحاسبة أنفسهم. وتبدأ القصة، بحسب أحد المصدرين، منذ إنشاء النقابة، والتي سمحت بتنسيب عدد كبير من المحاسبين، ومن ثم السماح لهم بمزاولة أعمال المحاسبة، دون إخضاعهم لشروط معيارية محددة. يُضاف إلى ذلك عدم وجود آلية رقابة ومتابعة لعمل خبراء المحاسبة.

هذا و"تخضع النقابة لاعتبارات سياسية في انتخاب وتعيين أعضائها، ويصبحون رهينة لانتماءاتهم السياسية ومصالحهم الشخصية"، يقول أحد الخبيرين، مضيفًا: "لا تقوم النقابة بالتقييم والمتابعة الدورية لخبراء المحاسبة حول كيفية تطبيق المعايير الدولية في المحاسبة والتدقيق والإجراءات المالية الأخرى". 

ما العلاقة بين وزارة المالية وخبراء المحاسبة؟

من المفترض أن وزارة المالية، رسميًا، لا تعتمد على تقارير خبراء المحاسبة، إذ لديها مراقبيها الذين يفترض بهم إجراء مراجعاتهم الخاصة للتأكد من التزام الشركات بتقديم البيانات المالية الصحيحة.

لكن ما يحدث، أن كثيرًا من موظفي الوزارة المعنيين بالمراقبة، متواطئين مع الشركات وخبراء المحاسبة، لإكمال دائرة التهرب الضريبي في لبنان. وفي المقابل، وبحسب خبيري المحاسبة، لم تبدِ وزارة المالية حتى الآن اهتمامًا جادًا بمراقبة أداء مراقبيها، فضلًا عن باقي حلقات دائرة التهرب الضريبي.

المصارف اللبنانية
للمصارف في لبنان دور في لعبة التهرب الضريبي

ويقول أحد خبيري المحاسبة الذين تحدث إليهم "الترا صوت"، إن مصلحة الضرائب في وزارة المالية "لم تتشدد أبدًا في ملاحقة خبراء المحاسبة الذين تبين توقيعهم على بيانات مالية غير صحيحة"، لافتًا إلى عدم وجود جهاز رقابي في وزارة المالية "قادر على القيام بعمليات الرقابة على نطاق واسع، باحترافية".

دور المصارف في اللعبة

لا ينتهي الأمر عند ذلك، فللمصارف دور في لعبة التهرب الضريبي من وجه آخر، وهو دور المفارقة، حيث تعتمد المصارف البيانات المالية للشركات الصادرة بتوقيع خبير المحاسبة، وليست التي تم إقرارها من قبل وزارة المالية، بمعنى أن الشركات تقدم لوزارة المالية بيانات مالية بأرقام أعمال منخفضة، تهربًا من الضرائب، في حين تقدم للمصارف بيانات مالية بأرقام أعمال مرتفعة للحصول على التسهيلات المصرفية.

فعلى سبيل المثال: شركة حققت أرباحًا بقيمة مليار ليرة في السنة. تقدم هذه الشركة لمصلحة الضرائب في وزارة المالية، بيانات بتحقيقها أرباح بقيمة أقل، ولتكن نصف مليار ليرة، لتتهرب من دفع الضرائب المفروضة على القيمة الحقيقية لأرباحها. وفي المقابل، تقدم للمصارف بيانات بتحقيقها أرباح تفوق المليار ليرة، للحصول على تسهيلات مصرفية. وفي كلتا الحالتين، يرتب "أبو شنطة" البيانات اللازمة.

في حين تقدم الشركات لوزارة المالية تقارير بأرباح منخفضة للتهرب الضريبي، تقدم للمصارف تقارير بأرباح مرتفعة للحصول على التسهيلات

يقول أحد خبيري المحاسبة، إن "ترك الحبل على الغارب لأبو شنطة، من شأنه تمكين هذه الثقافة، ونقل النقابة من موقع حماة دار العموم إلى موقع حماة الهيكل، بما يحمله الهيكل من فساد وضرر على بيئة الاستثمار في لبنان".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتفاضة اللبنانية تستعيد زخمها.. الشعب يريد إسقاط النظام المصرفي

المصارف في لبنان.. إذلال الناس أو الإضراب