14-يونيو-2022
يتجاوز البعض تحفيز الفرد إلى إدانته ودفعه إلى جلد ذاته (Getty)

يتجاوز البعض تحفيز الفرد إلى إدانته ودفعه إلى جلد ذاته (Getty)

نُصادف في مواقع التواصل الاجتماعي، يوميًا، كمًّا هائلًا من الفيديوهات التي تندرج في خانة "التنمية البشرية"، أو "تنمية الذات" وتحفيزها. ولا مجازفة في القول بأن هذه المفاهيم تكاد تكون إحدى أكثر المفردات تداولًا خلال السنوات الأخيرة. وهذا التداول مردّه انتقال الحديث عنها من الكتب، وغيرها من الوسائل التقليدية الأخرى، إلى مواقع التواصل الاجتماعي من جهة، وتراجع المنظّرين التقليديين لها لصالح الأثرياء و"المؤثرين" من جهة أخرى.

تتجاوز بعض فيديوهات "تنمية الذات" التحفيز إلى الاتهام والإدانة والحط من شأن الآخر، غير المُنتج، واحتقاره ومفاقمة شعوره بالذنب ودفعه إلى جلد ذاته

الشائع أن "التحفيز" هو الغاية من نشر هذه الفيديوهات وتداولها، وهو أيضًا غاية المتحدثين فيها بصرف النظر عن تخصصاتهم ومجال أعمالهم. لكن ما يلفت أن البعض يبالغ في تحفيز الآخرين إلى درجة خداعهم. بينما يتجاوز البعض الآخر التحفيز إلى مهاجمة الفرد، غير المُنتج في نظرهم، وتحميله مسؤولية واقعه البائس، وفشله في أن يكون ناجحًا أو مُنتجًا بالمعنى الشائع لمفهومي النجاح والإنتاجية اليوم.

لا يقتصر هذا الهجوم على الأفراد فقط، بل يطال أيضًا شعوبًا برمتها تُصنف، وفق معايير معينة، وتافهة، بأنها شعوبٌ غير مُنتجة. وأكثر من ذلك، يحمِّلها البعض، بكل صفاقة، مسؤولية واقعها وما هي عليه لأنها ببساطة لم تتحرك، دون أخذ واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعين الاعتبار.

فالنجاح، في عُرف هؤلاء المنتجين، مؤثرين وأثرياء، لا يتطلب من الفرد أكثر من العمل لساعات طويلة على مشروعه الخاص، لمدة 16 ساعة مثلًا، بدلًا من العمل لدى الآخرين. وألا تتجاوز ساعات نومه 5 إلى 6 ساعات، وأن يُغادر أيضًا ما يُعرف بـ "منطقة الراحة"، وغيرها من الشروط الشائعة لتحقيق الإنتاجية، والنهوض بمشروع خاص لا بد أن ينافس، وفق الفيديوهات ذاتها، مشاريع أثرياء العالم.

وبصرف النظر عن تفاهة ما يُقال ويروّج في هذه الفيديوهات، إلا أنه لا يبدو مفهومًا هذا الإصرار على تحميل الآخر مسؤولية واقعه، خاصةً حين يأخذ الحديث طابعًا شموليًا. كما لا يبدو مفهومًا أيضًا هذا الإصرار على تقديس "الإنتاجية"، والحط من شأن غير المُنتجين أفرادًا وشعوبًا.

وإذا تجاهلنا ما سبق، فإنه لا يبدو ممكنًا تجاهل أن هذه الفيديوهات وما يُقال فيها تضاعف، بطريقة أو بأخرى، شعور البعض بالذنب، إذ يحدث أن نتناسى، تحت تأثيرها، الواقع والظروف المحيطة بنا ونرى إلى أنفسنا بالطريقة التي تريد أن نراها بها. ما يعني أنها تتجاوز التحفيز إلى الاتهام والإدانة والحط من شأن الآخر، غير المُنتج، واحتقاره ثم مفاقمة شعوره بالذنب ودفعه، أخيرًا، إلى جلد ذاته.  

لا يبدو مفهومًا هذا الإصرار على تحميل الآخر مسؤولية واقعه، كما لا يبدو مفهومًا هذا الإصرار على تقديس الإنتاجية وإدانة غير المنُتجين

تُمارس هذه الفيديوهات شكلًا من أشكال الضغط الذي يأخذ منحىً تصاعديًا في منصات مثل "إنستغرام"، حيث تطغى المثالية على كل شيء آخر، ويبدو جميع من هم فيها منشغلون بزيادة إنتاجيتهم، وتنمية ذواتهم، والحرص على عدم هدر الوقت، والعمل لساعات طويلة جدًا، ثم نقل تجاربهم إلى الآخرين بعد ذلك بطريقة احترافية.

هكذا تضعنا فيديوهات "التحفيز" إزاء عالمين، عالم مختلق متخيل ومفبرك لشدة سهولة ما يحتاجه الفرد لتغيير واقعه والوصول إلى نادي "المُنتجين"، ومنه إلى نوادي أصحاب الثروات. وآخر واقعي ينشغل فيه الجميع بالبحث عن فرصته جنبًا إلى جنب انشغاله بتأمين قوت يومه. ففي هذه البلدان، ليست تنمية الذات أو زيادة قدراتها الإنتاجية هي ما يشغل البشر، وإنما البقاء.. مجرد البقاء فقط.