22-أغسطس-2019

يمر السودان بفترة تحول حرجة (رويترز)

"حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي.. وطن شامخ وطن عاتي.. وطن خيِّر ديمقراطي". هذه الافتتاحية لقصيدة خطها الشاعر السوداني محجوب شريف، وحَفِظَتْها عن ظهر قلب أجيالٌ من الشباب السوداني، يستصحبونها في نضالاتهم ضد القمع والاستبداد ويسترشدون بكلماتها ومعانيها أملًا في الوصول إلى دولة الحق والخير والجمال، دولة قوية، وحرة وديمقراطية. فهل سيكون توقيع الوثيقة الدستورية ومن ثم تشكيل مجلس السيادة وما يتبعه من تشكيل لمؤسسات الدولة وتولي الحكومة لمهامها هو البداية لتحقيق الحلم المنشود بالدولة المدنية؟

كان توقيع الوثيقة الدستورية وما تلاه هو البداية التي استبشر بها السودانيون والتي يعُدونها نقطة فارقة في تاريخ السودان ويأملون أن تكون قطيعة مع العهد البائد 

 استبشر قطاعٌ عريض من السودانيين بالتوقيع على الوثيقة الدستورية بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، في السابع عشر من آب/أغسطس 2019. وقد أعقبت هذا التوقيع احتفالات للسودانيين داخل السودان وخارجه، تعبيرًا عن الفرح لاعتبارهم أن هذا التوقيع يمثلُ البداية الصحيحة والخطوة الأولى نحو الدولة المدنية، دولة القانون والمؤسسات التي ستعمل على تحقيق شعارات الثورة ومطالبها التي خرجت الجماهير من أجلها، حريةً وسلامًا وعدالة.

اقرأ/ي أيضًا: تقرير لجنة التحقيق يفتح الباب أمام مزيد من الاحتمالات الثورية في السودان

مضامين الوثيقة الدستورية والمرحلة الانتقالية

بتوقيع الوثيقة الدستورية يكون قد أُلغي العمل بدستور العام 2005 الانتقالي ودساتير الولايات، باستثناء القوانين التي صيغت بموجب هذا الدستور إلى أن تُلغى أو تُعدّل لاحقًا. وتصف الوثيقة جمهورية السودان بأنها "دولة مستقلة ذات سيادة، ديمقراطية، برلمانية تعددية، لا مركزية تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الانتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب". إضافة إلى التأكيد على أهمية المحاسبة على كل الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية وأنها لا تسقط بالتقادم. ويعتبر تطبيق هذه البنود التي نصت عليها هذه الوثيقة – خاصة فيما يتعلق بالمحاسبة لرموز النظام السابق على الانتهاكات ضد حقوق الانسان وجرائم الحرب في أجزاء متفرقة من السودان طول فترة حكم الانقاذ، وحتى جريمة فض إعتصام القيادة – من أبرز التحديات التي ستواجه القضاء والجهات العدلية المختصة؛ وذلك لتشابك وتعقيد الملفات والارتباطات ما بين شبكات الفساد التي يحمي بعضها بعضًا ولوجود ما يمكن أن يسمى "بقايا النظام السابق أو الدولة العميقة" في مؤسسات الدولة المختلفة. وفي نفس الوقت نجد أن الشارع يراقب هذا الوضع ويستعجل النتائج ويريد أن يرى المحاسبة والشفافية لينال كل مجرمٍ العقاب الذي يستحق، ليتأكد من مبدأ فصل السلطات وفعالية النظام القضائي الذي يمثل إحدى أهم ركائز الدولة المدنية التي يصبو إليها.

وحسب الوثيقة الدستورية فإنّ المرحلة الانتقالية تستمر لمدة 39 شهرًا، من تاريخ التوقيع عليها وتنتهي بانتخابات تقام في نهايتها. وتكون الأولوية في الأشهر الستة الأولى منها لإرساء السلام في مناطق الحروب والنزاعات، كما تعمل الحكومة الانتقالية على إعداد وتنفيذ إصلاحات قضائية واقتصادية لتدارك الوضع المعيشي المتردي في السودان، خاصة أزمات الخبز والمحروقات التي مثلت الشرارة الأولى لانطلاق الثورة في كانون الأول/ديسمبر 2018. ويأمل السودانيون من الحكومة في المرحلة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أن تكون لديها رؤية واضحة لمعالجة المشاكل والاختلالات الاقتصادية والضائقة المعيشية التي وصلت لها البلاد، الأمر الذي يضع حكومة حمدوك أمام تحدي العمل على وضع خطة إسعافية لتحسين معاش الناس وتوفير السلع الضرورية، ومن ثم الانتقال إلى إصلاح هيكل الاقتصاد والإصلاح الإداري لمؤسسات الدولة القومية.

تشكيل المجلس السيادي بعد شد وجذب في اختيار أعضائه

أدى الفريق عبد الفتاح البرهان اليمين الدستورية، ظهر الأربعاء 21 آب/أغسطس 2018 رئيسًا للمجلس السيادي، وهو أعلى سلطة في البلاد، وعقبه أدى بقية أعضاء المجلس اليمين الدستورية ليصبح المجلس بكامل صلاحياته السيادية التي نصت عليها الوثيقة الدستورية. ويتكون من خمسة عسكرين، وهم شمس الدين الكباشي، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، وياسر العطا، وإبراهيم جابر كريم. إضافة إلى خمسة أعضاء مدنيين اختارتهم قوى إعلان الحرية والتغيير، وهم: حسن شيخ إدريس عن كتلة نداء السودان، وعائشة موسى عن القوى المدنية، وصديق تاور عن قوى الإجماع الوطني، ومحمد سليمان الفكي عن التجمع الاتحادي، ومحمد حسن التعايشي عن تجمع المهنيين السودانيين، إضافة إلى العضو الحادي عشر وهو رجاء نيكولا عبد المسيح كعضو توافقي.

وقد شهدت عملية اختيار أعضاء مجلس السيادة المدنيين حالة شد وجذب بين مكونات قوى الحرية والتغيير، وكما تساءل العديد من المراقبين عن معايير الاختيار لأعضاء مجلس السيادة، وقد وجهت انتقادات شديدة لعملية اختيار الأعضاء بناء على الكتل السياسية المكونة لقوى التغيير، وقد اعتبرها البعض عبارة عن محاصصة سياسية، لكن قوى الحرية والتغيير دافعت عن كفاءة الأشخاص الذين تم ترشيحهم للمجلس السيادي وأنهم يمثلون أقاليم السودان المختلفة، إضافة للتمييز الإيجابي لصالح الأقباط والمسيحيين في السودان وذلك بدعم ترشيح رجاء عبدالمسيح كشخصية توافقية في المجلس السيادي، وزيادة تمثيل المرأة في مؤسسات الدولة المختلفة. وقد أُقرت أسماء المرشحين لمجلس السيادة على الرغم من التحفظات التي أثيرت حول كيفية الاختيار - وهي تحفظات مفهومة في سياق التنوع الكبير في السودان - وذلك لرغبة الأطراف في ضرورة الإسراع حتى تتولى الحكومة مهامها والعمل بجد للخروج بالبلاد من حالة الركود التي تعيشها.

اقرأ/ي أيضًا: الانقلاب الفاشل في السودان.. مسرحية حميدتي لإتمام السيطرة؟

عبد الله حمدوك: لا أملك عصا موسى ولكن سننجز بإجماعنا وتوافقنا

أدى الاقتصادي عبد الله حمدوك اليمين الدستورية رئيسًا للوزراء في الحكومة الانتقالية، ويحظى حمدوك بقبول شعبي واسع النطاق، وقد حدد في مؤتمر صحفي أولى أولويات حكومته، وأولى هذه الأولويات هي "إيقاف الحرب وتحقيق السلام، والعمل على إيقاف الأزمة الاقتصادية الطاحنة وبناء اقتصاد وطني يقوم على الإنتاج وليس على الهبات والمعونات، وإصلاح مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد وبناء دولة العدل والقانون ووضع سياسة خارجية معتدلة المصالح العليا للسودان كهادٍ لها، إضافة إلى التمثيل العادل للنساء في جميع مؤسسات الدولة". وقد شدد على أنه سيكون رئيسًا لكل السودان، حيث قال: "رشحتني قوى الحرية والتغيير لرئاسة الوزراء، لكني بعد أداء القسم سأكون رئيس حكومة لكل السودانيين"، وأن كل إنجاز سيتم تحقيقه هو بتوحد الناس وعملهم الجماعي على تحقيق أهداف الثورة.

بتوقيع الوثيقة الدستورية في السودان يكون قد أُلغي العمل بدستور العام 2005 الانتقالي ودساتير الولايات، باستثناء القوانين التي صيغت بموجب هذا الدستور إلى أن تُلغى أو تُعدّل لاحقًا

كان توقيع الوثيقة الدستورية – وما تلاه من إجراءات لتشكيل المجلس السيادي، وأداء أعضاءه لليمين الدستورية، وكذلك أداء رئيس الوزراء للقسم والذي سيعمل خلال أسبوع على اختيار أعضاء حكومته – هو البداية التي استبشر بها السودانيون والتي يعُدونها نقطة فارقة في تاريخ السودان ويأملون أن تكون قطيعة مع العهد البائد بآلامه ومراراته، وبداية لعهد جديد، يصفُ ملامحه محجوب شريف في ختام قصيدته، قائلًا: "وطن بالفِيهو نتساوى.. نحلم، نقرأ، نتداوى .. مساكن، كهربة وموية.. تِحِتنا الظُلمة تتهاوى.. وتطلع شمسو مقهورة.. بخط الشعب ممهورة.. تخلي الدنيا مبهُورة.. إرادة وُحدة شعبية". فهل ستكون النخبة السياسية على قدر التحدي لجعل الحلم واقعًا؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليلة السكاكين الطويلة.. سلسلة انقلابات عسكرية تهدد الثورة السودانية

جدال واسع في الشارع السوداني بشأن محادثات أديس أبابا