في مشهد غير مسبوق، تمرّ مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة بإحدى أكثر مراحلها تعقيدًا، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تُمارس ضغوطًا سياسية متصاعدة لإعادة تشكيل المشهد الأكاديمي الأميركي على نحو يعكس رؤيتها المحافظة.
بدأت إدارة ترامب بتطبيق سياسة قمعية واسعة تستهدف الجامعات الأميركية، بهدف إخضاعها لمطالبها السياسية، وسط اتهامات باستخدام سلاح التمويل الفيدرالي كوسيلة للابتزاز السياسي.
وبينما تضع الإدارة الأميركية على رأس أولوياتها إنهاء ما تعتبره "أجندات تقدمية"، تتجه الجامعات إلى الرضوخ بشكل سريع لطلبات تُهدد تقاليدها الأكاديمية واستقلاليتها.
بدأت إدارة ترامب بتطبيق سياسة قمعية غير مسبوقة تستهدف الجامعات الأميركية، بهدف إخضاعها لمطالبها السياسية
سيف التمويل الفيدرالي
بحسب تقرير لموقع "بوليتيكو"، فإن عشرات الجامعات بدأت بمراجعة سياساتها التعليمية، وقامت بإزالة سياسات التنوع والإنصاف من مواقعها الإلكترونية وإلغاء الفعاليات المرتبطة بها، وبدأت مؤسسات أكاديمية عدة بتجميد التوظيف وتخفيض القبول عبر برامج الدراسات العليا، خوفًا من فقدان التمويل الفيدرالي، وفي محاولة للتأقلم مع المناخ السياسي الجديد.
هل بدأ عهد "المنطق السليم"؟
وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم البيت الأبيض، هاريسون فيلدز، إن الرئيس ترامب "يدشن عصر المنطق السليم"، فيما عبّر مسؤولون في مؤسسة "هيريتيج" المحافظة عن ارتياحهم لما وصفوه بـ"عودة الجامعات إلى الامتثال للقانون"، متهمين إدارات أوباما وبايدن بتحويل قوانين الحقوق المدنية إلى سياسات يطلق عليها "اليقظة" (Woke).
استهداف الأصوات الناقدة لإسرائيل.. إدارة جامعة كولومبيا تحقق مع الطلاب المؤيدين لفلسطين.
اقرأ أكثر: https://t.co/a5iqltTRjj pic.twitter.com/u88xAaxUxx— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) March 6, 2025
قوائم الاستهداف تتسع
أعدّت إدارة ترامب، قوائم استهداف تشمل عشرات الجامعات، منها 60 مؤسسة تخضع للتحقيق بتهمة "معاداة السامية"، و45 أخرى لمشاركتها في مشاريع تنوع صغيرة، و7 جامعات تُتهم بتقديم منح على أساس عرقي. وفي مثال صارخ، أعلنت وزارة الزراعة الأمريكية عن إعادة تمويل بقيمة 30 مليون دولار لجامعة مين، مقابل تعهدها بمنع المتحولين جنسيًا من المشاركة في رياضات مخصصة للإناث.
كولومبيا في عين العاصفة
في أحدث التحولات اللافتة، وجدت جامعة كولومبيا نفسها على شفا التنازل عن مبادئها الأساسية سعيًا للإفراج عن تمويل فيدرالي مجمّد بقيمة 400 مليون دولار. وتشمل الشروط التي فرضتها إدارة ترامب على الجامعة: حظر ارتداء الأقنعة في الحرم، وضع قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا تحت رقابة خارجية مستقلة، وتغيير منظومة تأديب الطلاب لتكون خاضعة مباشرة لمكتب رئيس الجامعة.
ورغم أن الإدارة الأميركية وصفت هذه الإجراءات بأنها "مجرد شرط مبدئي" قبل بدء مفاوضات رسمية حول مستقبل العلاقة المالية بين الحكومة والجامعة، إلا أن دلالاتها عميقة.
لكن على الجانب الآخر، وجّهت منظمات حقوقية انتقادات حادة لهذه السياسة، ووصفتها بأنها "محاولة استبدادية لتكميم الحرم الجامعي". فقد اعتبرت مديرة اتحاد الحريات المدنية في نيويورك، دونا ليبرمان، أن هذه الخطوة "محاولة واضحة من حكومة فدرالية خارجة عن السيطرة للاستحواذ على وظائف أساسية في الجامعة وتحويل كولومبيا إلى بوق لإدارة ترامب".
جامعات أخرى تلتحق بالركب
جامعة كاليفورنيا صوّت مجلس إدارتها، يوم الأربعاء، لصالح إلغاء شرط تقديم بيانات التنوع في عمليات التوظيف، في خطوة تُمثّل تراجعًا عن أحد أركان سياسات الشمول. أما جامعة دارتموث، فقد عيّنت، يوم الاثنين، المستشار القانوني السابق للجنة الوطنية للحزب الجمهوري، والمعروف بموقفه المعادي لمنح الجنسية بالولادة، مستشارًا عامًا ورئيسًا لمكتب شؤون الهجرة.
ويشير مراقبون إلى أن هذه الإجراءات تمثل استجابة مباشرة لحملة سياسية يقودها ترامب ونائبه جي دي فانس، تستهدف الحد من نفوذ الأوساط التقدمية في الجامعات، وتحجيم دور الحركات المؤيدة لفلسطين وتيارات تعمل على "النظرية العرقية النقدية والهويات الجندرية".
أعلنت إدارة #دونالد_ترامب عن إلغاء منح وعقود بقيمة 400 مليون دولار لجامعة #كولومبيا، بسبب ما وصفته بـ"مضايقات معادية للسامية" وقعت داخل الحرم الجامعي وفي محيطه بمدينة #نيويورك. pic.twitter.com/vFzms3AWrZ
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) March 8, 2025
تهديد وجودي لتمويل التعليم العالي
إدارة ترامب تستخدم أدوات قلّما استُخدمت سابقًا من قبل الحكومات، لإعادة توجيه الجامعات الأميركية. وبحسب وكالة التصنيف الائتماني "موديز"، فقد أدى الضغط الفيدرالي إلى تغيير نظرة الوكالة لقطاع التعليم العالي الأميركي من "مستقرة" إلى "سلبية"، ما يضع مستقبل العديد من المؤسسات على المحك، خاصة في حال تعليق برامج التمويل الفيدرالي مثل "تايتل 4 " الخاص بالمساعدات الطلابية.
معركة طويلة الأمد
رئيس مجلس التعليم الأمريكي، تيد ميتشل، الذي يمثل أكثر من 1600 جامعة، وصف ما يحدث بأنه "محاولة لتصفية الأفكار المعارضة من الحرم الجامعي"، داعيًا المؤسسات إلى الاستعداد لمعركة طويلة، بما في ذلك اللجوء إلى المحاكم لمواجهة تجاوزات السلطة التنفيذية.
وأكد ميتشل، أن "ما يحدث في جامعة كولومبيا يشير إلى رغبة الإدارة في اجتثاث الأفكار التي لا تتفق معها من الحرم الجامعي، دون أي نية للتوقف".
الطرد والترحيل: الوجه الآخر للسياسة الجديدة
إلى جانب الضغوط المالية، تتحرك إدارة ترامب نحو طرد طلاب أجانب ناشطين في دعم القضية الفلسطينية. ففي جامعات كولومبيا، وبراون، وجورجتاون، أطلقت الحكومة عمليات لملاحقة طلاب مقيمين ببطاقات إقامة دائمة، بزعم ارتباطهم بمنظمات "إرهابية". وأعلنت الإدارة نيتها ترحيل المزيد من الطلاب المؤيدين لفلسطين، في تصعيد وصفه ناشطون بأنه "قمع سياسي مقنّع بقوانين الهجرة".
نائب الرئيس جي دي فانس وصف الطلاب الأجانب بأنهم "خطر على الأمن القومي، وعلى الحلم الأميركي"، مضيفًا أن "أماكنهم في الجامعات تُنتزع من الطلاب الأميركيين".
انقلاب على الديمقراطية الأكاديمية
ما يحدث الآن يعكس تحولات جذرية في دور الجامعات الأميركية. ففي السابق، كانت هذه المؤسسات حامية لحرية التعبير والتعددية الفكرية، لكنها تجد نفسها اليوم محاصرة بين تهديدات سياسية وتمويلات مُعلّقة، ومضطرة للتخلي عن قيمها لضمان بقائها.
📌 في تصعيد جديد من إدارة #ترامب ضد الحراك الطلابي المؤيد لفلسطين، قامت السلطات الأميركية باعتقال الناشط الفلسطيني البارز في الاحتجاجات المناهضة للحرب الإسرائيلية على #غزة في جامعة كولومبيا، محمود خليل، بسبب نشاطه في الاحتجاجات.
📌 يثير اعتقال خليل تساؤلات حول مدى حرية التعبير… pic.twitter.com/oWGKbfLpqG
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) March 10, 2025
يقول الرئيس السابق لجامعة دارتموث، فيل هانلون، إن "الجهود الإبداعية والاكتشافات العلمية والتعليم المتميز أصبحت تُهمّش، بينما تسيطر النزاعات السياسية على المشهد الأكاديمي".
ويخلص الرئيس السابق لجامعة نورث كارولاينا، هولدن ثورب، إلى أن "رؤساء الجامعات لن يدخلوا في وضع مقاومة مفتوحة، لأن لديهم تاريخًا طويلًا وموارد مالية ومجتمعية يحاولون حمايتها"، مشيرًا إلى أن "التوتر سيستمر لفترة طويلة".
إعادة صياغة دور الجامعات الأميركية
إدارة ترامب تمضي قدمًا في إعادة صياغة دور الجامعات الأميركية، وتضغط على مؤسسات التعليم العالي لقبول واقع جديد يُكرّس سياسات قومية محافظة على حساب التنوع الأكاديمي وحرية الفكر. وما لم تتحرك هذه المؤسسات بحزم قانوني وسياسي للدفاع عن استقلالها، فإنها تخاطر بخسارة ما بنته عبر عقود من التقاليد الأكاديمية والحريات الفكرية.