11-أكتوبر-2020

سيوران في باريس سنة 1977 (صوفي باسولوس/Getty)

تقول سيمون بوي، رفيقة درب الفيلسوف الرومانيّ إميل سيوران (1911-1995) خلال أحد حواراتها النادرة أنّ نجاح رفيقها، أي سيوران، بصفته كاتبًا وفيلسوفًا جاء شديد التأخر. كما تضيف أنّ هذا النجاح بدأ قبل وفاته بنحو 10 سنواتٍ فقط. تحديدًا عندما أصدر كتابه "تمارين في الإعجاب" (1986). فقبل هذا التاريخ، وعلى الرغم من إصدار سيوران لعدد كبير من الكتب، إلا أنه استمر مجهولًا تقريبًا. هذا وفقًا لعشيقته التي تذكر أنّه أخبر الناشر الفرنسيّ الشهير كلود غاليمار حينما وصل إلى مكتبه بعد زيارات مُتكرِّرة إلى "دار غاليمار" عن شعوره بشعور العاهرة التي لا يريد أحد مضاجعتها، في إشارةٍ إلى محدوديّة شهرته ومعرفة الآخرين به.

من أكثر ما تكرَّر في يوميّات إميل سيوران، بحسب سيمون بوي، كان اعتقاده بأفضلية أن يكون المرء مجهولًا على أن يكون معروفًا، مُعتبرًا أنّ المجد شيء حقير

تصف سيمون بوي حياة مؤلّف "اعترافات ولعنات" على أنّها عبارة عن سلسلة من الإهانات. وتُضيف أنّه شعر بأنّ نشر مؤلّفاته في سلسلة للجيب سيجعلهُ مقروءًا من قبل الشباب من جهة، ويُقدِّمه إلى القرّاء بصفته مؤلّف أكثر من كتاب من جهة أخرى. إذ كان يُعرف آنذاك باعتباره مؤلّف "موجز التفكيك" فقط، دون إشارة إلى بقيّة مؤلّفاته. لهذا السبب تحديدًا قرّر زيارة كلود غاليمار مُجدَّدًا طالبًا منه نشر أعماله في سلسلة كتب الجيب، وهو ما كان في عداد غير المُمكن بالنسبة إلى غاليمار الذي عرض عليه الأرقام التافهة لمبيعات كتبه، وأخبرهُ بعقدة النشر أو إعادته فيما يختص بمؤلفاته.

اقرأ/ي أيضًا: "نوبل" لويز غلوك وضرورة إعادة النظر في علاقتنا بالشِّعر

لا يُمكن القول إنّ هدف إميل سيوران من طلبه المشار إليه أعلاه هو أن يصير كاتبًا مشهورًا بقدر رغبته في أن يكون كاتبًا مقروءًا يتعرّف إليه القُرّاء بصفته مؤلّف "إغواء الوجود"، أو "تاريخ ويوتوبيا"، أو "السقوط في الزمن"، وليس باعتباره مؤلّف "موجز التفكيك" فقط.

لعلّ أكثر ما يدعم الادّعاء أنّ سيوران لم يكن صاحب طموح بأن يكون ذائع الشهرة هو ما تقولهُ سيمون بوي عن أن أكثر ما تكرَّر في يوميّاته كان اعتقاده بأفضلية أن يكون المرء مجهولًا على أن يكون معروفًا، مُعتبرًا أنّ المجد شيء حقير.

كما تُشير سيمون بوي، باعتبارها الأقرب إلى إميل سيوران، أنّ موقفهُ من "المجد" كان مُبهمًا بل وشديد التناقض أيضًا. والحال أنّ هذا "المجد" لن يعرفهُ سيوران وعلى نحوٍ واسع خارج حدود فرنسا إلّا بعد وفاته. أمّا بالنسبة إلى بدايات "المجد"، فُتعود إلى ما بعد إصدار كتابه "تمارين في الإعجاب" الذي نقلهُ الشّاعر التونسيّ آدم فتحي إلى اللغة العربيّة، وأصدرتهُ مؤخرًّا "منشورات الجمل".

التكريس برأي سيوران هو أسوأ ما يُمكن أن يُعاقب به كاتب

جمع إميل سيوران في "تمارين في الإعجاب" مقالات ومُقدِّمات كتبها عن كتّاب آخرين، ومرَّر خلالها هواجسه الشخصيّة تجاه الأدب، ونظرتهِ إليه وللكتابة باعتبارهما رذيلة. لكنّ الكتابة تحضر في موضع الرذيلة ضمن مفهوم سيوران الخاص الذي يُحيل هذه المفردة غالبًا إلى الخلاص أو النجاة. 

من بين الكُتّاب الذين تحدّث عنهم، بإعجابٍ شديد، الفرنسيّ جوزيف دي ميستر الذي وصفهُ بأكثّر المُفكِّرين شغفًا وتعصّبًا. كما الإيرلنديّ صمويل بيكيت الذي جمعتهُ به علاقة صداقة متينة عزّزتها نظرتهما المُشتركة للولادة باعتبارها جريمة، ويصفهُ سيوران هنا بأنّه جعل من حبّ الكلمات سندهُ الوحيد. أما الفرنسيّ هنري ميشو فحظي بوصف المتصوّف المكبوت، علمًا أنّ الأخير من الأصدقاء المُقرّبين لسيوران أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: الأدب والانتحار.. حل وحيد ممكن

في ذات الكتاب حضر مواطنهُ ميرسيا إلياد الذي قدمهُ على أنه شديد البعد والغرابة عن كلّ الديانات التي يَدرُسها. إلّا أنّه رغم ذلك شديد الخصوبة، وقادر على العطاء بصورة مُتواصلة في مجاله هذا. أما الفرنسيّ سان جون بيرس فيرى سيوران أنّه يتحدّى العدم، مُعتبرًا إيّاه الشّاعر الذي اختار لنفسه موقع الوسط في النزاع القائم بين العدميين والعالم، بالإضافة إلى الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس، أو الحضريّ المُترحل كما وصفهُ.

رأى مؤلّف "المياه كلّها بلون الغرق" أن بورخيس أُصيب بلعنة أطلق عليها اسم "لعنة المُعترف بهم"، مُعتقدًا أنّه كان يستحقّ ما هو أفضل من الاعتراف، وهو البقاء في الظلّ غير ملحوظ بل وضمن حالة عصية على الإدراك أيضًا. إذ إنّ التكريس برأي سيوران هو أسوأ ما يُمكن أن يُعاقب به كاتب، خصوصًا إذا كان من عيّنة بورخيس، وهي عيّنة يرى أنّها في طريقها باتّجاه الانقراض، ويُعرِّفها بقوله إنّها تدلُّ على بشر غير مُقيمين، لا يملكون وطنًا فكريًّا. إذ إنّ راحتهم كامنة في حضارات وآداب مُختلفة. وهو ما وضع سيوران اليد عليه عند بورخيس الكوني، والمُرتاح في المجالات الأكثر تنوّعًا، عدا عن أنّه وكما يرد على لسان سيوران نفسه، أحد العقول الأقلّ إثارةً للملل، وآخر المُرهفين أيضًا.

إذًا، ومن حيث شاء سيوران عبر تمارينه في الإعجاب، فالكتابة كما القراءة أمام العدم الذي قد يلتهم كل محاولات النجاة غالبًا. إلا أن التوقف عند قراءة شخصية من نوع سيوران فيما قرأت قد يكون من بين ما قدر له أن يقوض الملل أو يكشف عن غير المألوف بخصوص نصوص وأقلام مألوفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكتابة الأدبية في المستنقع الفيسبوكي

عزاء لفرويد