18-يونيو-2017

فريدريك سومر/ إيطاليا

كان وحيدًا وبموته أصبح يتجاوز حتى الوحدة

  • د. هـ. لورانس

نفس الأماكن ونفس الوجوه لكن ليس الناس أنفسهم. الملابس تصنع كلّ الرجال والنساء، فلماذا إذن كنت هناك وحيدًا، تُفسد البهجة ولا تسرق الفرح؟ لم تكن تملك أرجلًا حقيقية أو جسدًا حقيقيًا، وكان الجسد له عدة استخدامات وقتها، لكنها لم تكن ممتعة. والحكايات اللانهائية أيضًا، والأحزان اللانهائية، والآهات اللانهائية. ستموت إذن. وماذا ستفعل بالذكريات؟ هل ستأخذها معك؟

 لا أحد يعرف أبدًا ما يُخبّأ له، ولكني عندما أمنح كل هذا الحب لا يبقى هناك شيء آخر لأمنحه، فلا تتوقّع مني الكثير عندما يتحوّل العالم كله بداخلي إلى شخصٍ واحد، يحتضر بين الحين والآخر مخلِّفًا وراءه حيزًا كافيًا من الدهشة.

عندما أدركت أننا راحلون، جميعنا، أسرعت بالتورّط في علاقة جديدة، وفي بالي حديثك الأخير قبل أن ترحل حين قلت أنها ليست النهاية بل البداية.

*

رغم حضورك الطاغي بداخلي، أنت الغائب دومًا، ربما بعد مئة عام أو أكثر ستكون هنا، كنت أقول. وأنت تقول إنك لن تعيش لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، وستنجح إحدى محاولات انتحارك خلال عامين على الأكثر.

لم أصدّق أنك ستموت هكذا: تفتح شفتيك ليظهر صفّ من الأسنان الصفراء. ربما كانت ابتسامة وربما لم تكن، والمؤكد أن المشاعر التي تثيرها بداخلي لا يحسّها الآخرون. ولكنني الآن عرفت أن الموت قريب جدًا من الحياة عندما مرّت بجانبي سيارة دفن الموتى. تساءلت بماذا يشعر العابرون تجاهي يومًا، وظللت أنظر إلى ذلك الرجل العاري في الشرفة لأتأكد هل كان عاريًا فعلًا أم أنني تخيّلته هكذا.

وأنا أفكر في حياة أخرى، تنبهتُ إلى أنني أمشي بجوار المقابر، وأن السائق ليس لديه أي مرايا في السيارة. كنا سنموت ولكني لم أرد أن أموت ذاك اليوم، أردت فقط أن أراك. ولأنك لم تكن موجودًا بالطبع، ظللت أنظر طوال تلك الساعات إلى تلك الأشياء التي نمت بيننا لعلّي أحرّكها، وأعيد ترتيب الخطابات لأني أعرف أن الأشياء العظيمة في حياتنا لن يحسّها الآخرون أبدًا.

*

 

سيدة عجوز، تسكن الطابق الثامن ولم تبلغ الثمانين بعد، أسمع أنفاسها المتهدجة. ربما تتمنّى هبوب عاصفة تنزعها من مكانها. ربما تتذكر أحيانًا وهي تنظر إلى تلك العروق البارزة في يديها أنها لم تكن هكذا، وأنه حتما هو الله الذي أراد لها أن تصبح عجوزًا مبكرًا. لكن عليّ أن أخبرها أنني أيضًا مثلها أصبحتُ عجوزًا قبل الأوان، أنتظر أن أسمع صوت خطواتها لأتاكد أن هناك كائنًا آخر يشاركني نفس الوحدة.

*

 

ينبغي أن أموت الآن بعد عدد لا بأس به من بروفات الحزن المتتابعة. ينبغي أن أموت الآن. يداي باردتان هذا المساء، وكلّ مساء أيضًا أذرف دمعتين على تلك اليدين. فليس من العدل أن أترك كلّ مشاعري على ورقة بعدما أهملت معرفة التواريخ.

مرّت السنوات بسرعة، لكن الطفلة تبقى كما هي في منتصف الحجرة: نظيفة جدًا، وبابتسامة واحدة باهتة ترسم قلبًا على الحائط وتنتظر في داخل نفسها تلك الرجفة التي تنتابها عندما يلمس جسدها، وتودّ أن تتسع مساحة هذا اللمس لتملأ الحجرة كلّها، لتقبع هي في المنتصف بابتسامة واحدة باهتة في انتظار تلك الشخوص الوهمية التي سكنت هنا من قبل لتأتي وتشغل نفس الأماكن، وكأنها لم تغب عنها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصورة التي انتظرتها الأم

مسحور برهبة الوقوف أمام جثته