17-أكتوبر-2015

سوريون يتظاهرون في واشنطن ضد الاحتلال الروسي لبلدهم (Getty)

يحمل الفرد ماضيه وتاريخه في الذاكرة، ويستمر جدله معها بدون توقف ما دام حيا، ويصلح هذا على المستوى الجمعي كذلك، فالتاريخ السياسي/الاجتماعي يستمر في الذاكرة الجمعية، وتؤرق مشاكله وأزماته الوعي العام، ومن الأمثلة الحاضرة على ذلك إشكال الوعي الإمبراطوري في روسيا.

بصورة عامة، لا يسهل على نخبة دولة ذات تاريخ إمبراطوري التصالح مع فكرة الانهيار أو الانكماش والتقلص، وحتى بعد تجاوز النخبة لمرحلة الإنكار، يبقى الحنين إلى عهود الإمبراطورية موجودًا، ويلعب دورًا هامًا في سياسات الطبقة السياسية، ولهذا يصبح من الخطر عدم تكبيل هذه الطبقة من قبل القوى الاجتماعية بقيود قانونية وديمقراطية، وهي قيود تخفف من سرعة التوسع الإمبراطوري ولا تمنعه، ونحن نعايش حاليًا واحدة من أخطار هذه الإشكالية في التدخل الروسي في سورية، وما ينبغي علينا فحصه لفهم هذا التدخل ومستقبله هو نقاش الوعي الإمبراطوري عند النخبة السياسية الروسية وتفاعلها مع السياق الاجتماعي والاقتصادي للدولة.

لا يسهل على نخبة دولة ذات تاريخ إمبراطوري التصالح مع فكرة الانهيار أو الانكماش والتقلص

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عمل في شبابه في واحد من أعتى الأجهزة الإمبراطورية في العصر الحديث وهو لجنة أمن الدولة "كي جي بي"، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي كان شاهدًا على حالة الابتذال والمهانة التي وصلت لها روسيا في عهد سلفه بوريس يلتسن، ومنذ صعوده إلى منصب الرئاسة عام 2000، كان واضحًا أن بوتين قد استطاع إحداث قطيعة مع الاتحاد السوفييتي كفكرة وسياسات أيديولوجية، ولكن ليس مع الفكرة الإمبراطورية، ومن خلال آماله التحديثية والرأسمالية الحثيثة للاقتصاد بالتوازي مع الدكتاتورية، بإمكاننا القول أن وعي بوتين يتصل في الأساس بالإمبراطورية القيصرية في عهد بطرس الأكبر وكاترينا الثانية، حيث الرغبة المحمومة في التحديث على الطراز الغربي الأوروبي اقتصاديًا وعلميًا مع معاداة الليبرالية السياسية والديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: الأسد في نيويورك!

بالإضافة إلى ذلك، لا يعادي جهاز الدولة الروسية الكنيسة الأرثوذكسية، بل يكرس قولبتها كمؤسسة دينية في دولة دكتاتورية، وقد نجح جهاز الدولة في هذه العملية إلى حد كبير، ولعلنا هنا نتذكر تصريحات بطريرك موسكو ضد المحتجين على سير الانتخابات التشريعية في 2011 محذرًا إياهم من "حمام دم"، وأخيرًا موقفها الداعم للتدخل الروسي في سورية، وهذا يشير إلى احتواء جزئي للكنيسة من قبل الدولة، وهي خطوة مهمة على العموم في مسار السيطرة على المجتمع، فالكنيسة الأرثوذكسية مكون حاسم في الهوية الاجتماعية، ومنذ قرون طويلة، كانت هناك تصورات مكرسة لروسيا باعتبارها موئل المسيحية "السنية"، بل إن فيودور دوستويفسكي قد سجل في يومياته تأكيدًا مكررًا لفكرته الخلاصية بخصوص "الرسالة المسيحية لروسيا"، وزادت ممارسات الاتحاد السوفييتي القمعية للكنيسة في روسيا وأوروبا الشرقية من اشتدادها وتقويتها بعد انهياره.

ما يجعل أحلام بوتين الإمبراطورية معاقة هي شروط الاقتصاد والتنافس والواقع الاجتماعي، فروسيا دولة دكتاتورية بديكور ديمقراطي، وهذا أمر معبر عنه في الطبقة السياسية الروسية علنًا من خلال تبني مفهوم الكاتب الأمريكي والتر ليبمان عن "الديمقراطية الموجهة"، والتنظير على أساسه، وفي مجتمع ضخم ومعقد كالمجتمع الروسي لا تساعد مفاهيم مغالطة كهذه في تمتين علاقة المجتمع بالدولة، وإن كانت الدكتاتورية المقنعة تساعد على سرعة الحركة السياسية وتجنب التخثر الذي تسببه المؤسسات الديمقراطية، إلا أن فشل السياسات أو"المغامرات الإمبراطورية" قد يقود في مجتمع كهذا إلى انهيار اجتماعي وليس إلى تغيير سياسي.

من جانب آخر، لا تزال روسيا بلدًا مستوردًا للتكنولوجيا الحديثة، وأحد أهم بواعث تمتين العلاقات مع إسرائيل في عهد بوتين هو الحاجة إلى التكنولوجيا الأمريكية، بالإضافة إلى أن الاقتصاد الروسي منذ فرض عقوبات الاتحاد الأوروبي بعد حرب القرم في 2014 يعاني من انكماش، كما أن آليات الإقراض قد تعقدت وتم التضييق عليها، بالإضافة إلى انخفاض أسعار النفط، وهذا يحدث في بلد لا يزال يعرف شكلًا من أشكال الدعم الحكومي للاقتصاد، أي أن إشكاليات الاقتصاد قد تنعكس كغضب اجتماعي، وكانت هذه العقوبات في الأساس ردًا على سلوك "إمبراطوري" اتخذته روسيا في أوكرانيا، وقبل ما يزيد عن مائتي عام، قامت روسيا القيصرية، بقيادة كاترينا الثانية، بالسيطرة على أجزاء من القرم والسيطرة على البحر الأسود، باعتبارها إمبراطورية كبرى ذات مصالح في الإقليم والعالم.

في غمرة هذا السياق، ما حدود وجدية التدخل الروسي في سورية؟

على مستوى حدود العمليات، من المرجح أنها لن تتجاوز الضربات الجوية إلى تدخل بري، هذا من ناحية الحسابات العقلانية، وإن كانت العقلانية لا تسير التاريخ وبالذات تاريخ الطموحات الإمبراطورية، ومن المرجح أن هذا التدخل الروسي سيوظف بعد ذلك في حل أزمته الحالية بفعل عقوبات الاتحاد الأوروبي، أي أن الهدف الفعلي ليس الحفاظ على بشار الأسد، بل ترتيب وضع مقنع لروسيا في سورية بالطبع وتوظيف حملتها العسكرية في سورية في ملف القرم وأوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي، فإذا كانت روسيا بقيادة بوتين ذات مطامح إمبراطورية، وتبقى روسيا دولة عظمى ولديها إمكانيات ضخمة، فإن الأدعى هو الحفاظ على أمنها القومي ومجالها الحيوي المكرس والمعروف في التراث الكلاسيكي للسياسة الروسية ممثلًا في البلقان والبحر الأسود، وهذا ما تطيقه الدولة الروسية كاقتصاد ومجتمع وسياق سياسي، وتطيقه بالكاد، ولكنها تكاليف النوستالجيا للعهد الإمبراطوري!

اقرأ/ي أيضًا: كيف تموّل داعش؟