09-مايو-2021

كولاج لـ بيكاسو

جولة في خلجات نفس بابلو بيكاسو الذي كان يراعة بشرية، كلّما تنشّق الأوكسجين تفاعل مع أخيلته الجامحة، لتسفر ضياء فنيًا مستقطبًا أنظار الأجيال المتلاحقة.

إحدى إشراقات بيكاسو كانت هي الكولاج، وهو عمل فني يتكون من مواد متنوعة يتم لصقها على الورق، القماش أو الألواح الخشبية

وإحدى إشراقات بيكاسو كانت هي الكولاج، وهو عمل فني يتكون من مواد متنوعة يتم لصقها على الورق، القماش أو الألواح الخشبية. وكان بابلو بيكاسو وجورج براك الأبوين الروحيين لتلك الفلتة الإعجازية في ميدان الفن المعاصر. وقد اشتقا مصطلح كولاج (Collage) من اللفظة الفرنسية (Coller) بمعنى يلصق.

اقرأ/ي أيضًا: بيكاسو مظلّلًا بنسائه

كانتْ أفكار بيكاسو وبراك تجدّ السعي بشكل وثيق، ولكأنّها لدى كل منهما، كما وصفهما براك "مثل متسلقَي جبال مشدودان معًا!".

كانت المساحة تستثيرهما نحو ملأها بتكوين مادي، وإذا بهما يقلبان المفاهيم التقليدية لمساحة المنظور، وكان ذلك في الطريق نحو تبلور التكعيبية.

بدأ الأمر بلفافة ورق حائط خشبية مركونة في واجهة محل صادفها براك، قام بقصها إلى قطع وتجميعها بعمل مثّلَ نواة الكولاج الأولى، ما أن اطّلَعَ عليها صاحبه بيكاسو، حتى أينَعتْ واخضوضرت لمفهومها النهائي.

كولاج لـ بيكاسو 1913

هناك من يرى في هذا الابتكار لبيكاسو استدراكًا استشفائيًا لتصدّعات الواقع. إذ كان يقفز به على الأسى، متناسيًا إياه، ململمًا شظاياه، وصانعًا منها قطعًا للأمل.

أو ربما أراد الفنان أن يلعب دور روائي، فيرسم سيناريو أكثر إفصاحًا لحكايا منسية. فنراه يأخذ نصف غيتار ورقي مع وريقات من جريدة إسبانية كأنها تلقي تحية إجلال لجذوره، قطعة من الورق المقوى كتلك التي توضع في بطانة حقائب السفر المهترئة، نوعين من ورق جدران أكلتْ عليها السنون وشربتْ الأقداح حتى اتخِمتْ جِراحًا. كانت توليفة آسرة اسماها الغيتار طرحها عام 1913.

وتجد روث بيانكو (أستاذة في جامعة مالطا) في الكولاج "سبيلًا للتفكير في الكسح والإنقاذ لما هو موجود أصلًا، شكل من أشكال النقش فوق آثار الماضين".

دأب النقاد على معايرة تقنية الكولاج كسائر الأعمال وتصنيفها، فمنها ما هو عشوائي، ومنها ما هو مقصود مدروس، وفي الحالتين كان يدحض المعاني السائدة ذات التحليلات الفردية الثابتة، ويأتي بأخرى بسياقات معاصرة مربكة متجددة المعاني، وهذا ما كان يقض مضجع المدرسة الكلاسيكية.

كولاج لـ جورج براك 1914

وهناك من يعزو ذلك لما لتقنية الكولاج من دور في تقويض الخصلة الإبداعية للفنان، وإدخال مقدرته على الابتكار في سبات. فهو يجد أجزاء عمله من صور وقصاصات شبه جاهزة، وبكميات وافرة، وليس عليه سوى تجميعها، لذلك راحوا يشككون في القيمة الفنية للنتاج، وبالتالي المَلَكة الفنية للفنان.

بيد أن مؤسَسي التقنية كانا لا يُشَق لهُما غُبار، وبالذات رائدها بيكاسو الذي كان يجد المسير غير آبه لمن حوله. فكان يتَنقل ككتيبة مسلحة بالخيال والمهارة على رقعة شطرنجية موازية للواقع. أما مهارة بيكاسو فلم تكنْ وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة الدربة الدؤوب والتكرارات الحثيثة نحو الفرادة وإصابة سوناتا الجمال.

ومن بعد براك وبيكاسو استمرتْ مسيرةُ الكولاجِ بسلاسة بين أوساط الفنانين، فكانت أحجية تتشكل لتلهم الأذهان، وتُعبّر عن مجريات اللحظة الراهنة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا يحبّ الآسيويون بيكاسو إلى هذا الحد؟

"كولاج" تمام عزام.. الشظايا هي المشهد الآن