09-فبراير-2019

جدارية للمناضل البوليفاري الراحل هوغو تشافيز في العاصمة كاراكاس (خوان باريت/أ.ف.ب)

هل يمكن الخروج بإجابات سهلة وبسيطة بشأن الحالة الفنزويلية مؤخرًا؟ ربما. خاصة بالابتعاد قليلًا عن الجوهر الذي يسيطر على الجدل الإعلامي والخطابي العام، بعلم ودونه، بخصوص فنزويلا التي كانت مركبة، غير غريبة عربيًا، دائمًا. 

لا يستوجب رفض التدخل الإمبريالي بالضرورة غض النظر عن بنيوية الاستبداد وبنيته

بتقصي ما يقصد به من خلف المبدأ العام المعرف بـ"تقرير المصير" أو حق الشعوب في تقرير مصيرها، يمكن القول بأن مبتدأ المبدأ وخبره يكمنان في أن يتوفر للناس قول حقيقي وباع حاسم في بلورة وتشكيل القرارات التي تمس حياتهم. مع ملاحظة أن الحق في تقرير المصير لا يقتصر على المساحات السياسية، إنما يتعداها لكل مسارب الوجود اليومي للناس، في اقتصادهم واجتماعهم وصولًا للتعبيرات الأكثير ترميزًا وتمثيلًا من إنتاج ثقافي وتمثلات هوياتية. 

اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: الأزمة الفنزويلية.. صراع داخلي بأبعاد دولية

من شأن سحب أحقية تقرير المصير على الحالة الفنزويلية استجلاء أبعاد أساسية يتم التمويه عنها عند التناول الاصطفافي فنزويليًا. كما يمكن لهذا المبدأ العام، أي تقرير المصير، أن يحل بمحل الحق الذي يراد به باطلًا. بمعنى أن الخطاب الذي يستند للزعم القائل أن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يستحق الدعم والدفاع عن شرعيته كونه انتخب ديمقراطيًا، مستندًا إلى الحد الأدنى من صفة هذا التحوير للديمقراطية التمثيلية هو خطاب قائم فعلًا، وإن استند على جرعة سفسطائية يسهل تقويضها وجرها بعيدًا عن حشرها كمقولة مؤسسة متعلقة بـ"تقرير المصير". 

الذهاب مذهب الدفاع الحقيقي عن فنزويلا من باب الاستناد لتقرير المصير يستدعي الاعتراف بأن مادورو لم ينتخب ديمقراطيًا بالفعل. إنما تم إعلان فوزه في انتخابات أيار/مايو 2018 في البلاد بما هو أقرب لاستفتاء التنصيب، المعلوم عربيًا للمناسبة.

ليس من باب تبني أحد المكونات الأساسية للبروباغندا التي تضخ في خضم التحشيد ضد فنزويلا، لا ضد مادورو أو لصالح معارضيه بالضرورة، تحضر حقيقة أن تلك العملية الانتخابية شابها حالة تزوير واسع، رفقة ابتزاز واضح لقطاعات كبيرة من الشعب الفنزويلي، كما لإرث القائد الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز. الذي يكفي استطلاع عدم ثبوت دليل واحد على التزوير في الانتخابات العديدة التي خاضها بعد الانقلابات العديدة ضده وقبلها. بينما تتهافت عشرات الأدلة على التزوير أمام مادورو، رفقة التوظيف المعلن لإرث بوليفارية تشافيز دون الوفاء لمبادئها المؤسسة، أو حتى برامجها. بالتأكيد دون نسيان "الحظ" كمكون صعب القياس في السياسة، لكن مقاطعة المعارضة الفنزويلية بتنويعاتها لانتخابات 2018 أتاحت لمادورو ما أتاحت له من ادعاء ضرورة الدفاع عنه من باب تقرير المصير استنادًا لصفته "الديمقراطية

إذا كان حق تقرير المصير من المستندات الإنسانية واليسارية التي يستدعي الدفاع عن فنزويلا ومعاش شعبها ومستقبله استحضارها، فلا يفترض توظيف ما يشجبه حق تقرير المصير ذاته في الدفاع عنه. أي أن الاستناد لمفرزات عملية انتخابية إقصائية لا يمكن لها أن تتلاقى مع محاولة تقويض الأدوات اليمينية غير الديمقراطية، إنما يستدعي الاستناد في الدفاع على تقرير المصير انتقاد موقع مادورو نفسه. 

ما دون انتخابات حقيقية مسندة بالخبز والسلم الأهلي يظل تقرير المصير وتعزيزه ليس إلا دعاية سياسية

كي لا يصار إلى حالة مشوبة بالعاطفة الجمعية تترسخ في العقل الجمعي، كما حالات شبيهة، أفدحها عراق ما بعد الغزو الأمريكي، يفترض عدم المفاضلة في مصفوفة الاستبداد والاستعمار والتدخلات الإمبريالية. فرفض التدخل الإمبريالي لا يستوجب بالضرورة غض النظر عن بنيوية الاستبداد وبنيته. فلا يعقل أن يتم حشر انتقاد المسيرة الاستبدادية المتصاعدة لمادورو منذ 2016 في الظل. من أمثلة هذا التصاعد إلغاء استفتاء 2016 بعد إتمامه.والتجاوزات على مقررات المحكمة العليا وصولًا لحل الجمعية الوطنية في آذار/مارس 2017. كذلك الاحتيال المباشر بالدعوة لانتخابات جمعية تأسيسية جديدة في تموز/يوليو 2017. يضاف إلى كل هذه الأمثلة الساطعة دستوريًا، منهجية القمع، ليس ضد المعارضة اليمينية ووجوهها المدعومة علنًا من واشنطن، بل ضد الاحتجاج السلمي برمته، دون القفز عن الدور الإجرامي والخطير للمعارضة المؤسسية في تأجيج العنف والركون إليه، ودعم الولايات المتحدة المعلن لهذا العنف وتأجيجه.

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

هذا ما يقود  إلى ملامسة معضلة حقيقية، دليما سياسية مكتملة الأركان، أي أن دعم واشنطن السافر والعنفي لتخريب المناخ السياسي الفنزويلي رفقة تقديس أدوات الاستبداد من طرف إدارة مادورو منعا بشكل منهجي ومتفاعل إمكانية الشعب الفنزويلي على خوض السياسة والتعبير عن نفسه سياسيًا والمطالبة بتقرير مصيره . تمامًا كأنها حالة عراق صدام أو سوريا الأسد، في متاهة التدخل الخارجي والاستبداد المحلي. لذلك ينبغي على أي طرح يدعي اليسارية النظر بعين الضرورة لانتخابات حقيقية في فنزويلا، يضاف إليها كمعطى أولي الخبز والسلم الأهلي، ما دون ذلك فتناول تقرير المصير وتعزيزه ليس إلا دعاية سياسية. 

بالتأكيد أن الانتخابات ليست المسار اليتيم أو حتى المركزي لتقرير المصير. خاصة أن إدارة مادورو  لم تستأنف جهود تشافيز بخصوص الديمقراطية الثورية، حيث يمارس العمال والفقراء سيطرة مباشرة على قراراتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما أن هذه الإدارة رفضت الديمقراطية الليبرالية أيضًا. ما يشي بدوره أن العقدة ليس بالشكل الديمقراطي، أو بالنسخة الديمقراطية التي تستجيب للفاعل المحلي، بل إن مشكلة مادورو ديمقراطية في أساسها، وانعكاساتها تقع على العمال والطبقات الشعبية والفقيرة، التي أتى من جنباتها مادورو نفسه، النقابي وسائق الحافلة الذي عززت حظوظه الرئاسية بوليفارية الفقراء أساسًا. 

بصدد المسؤولية المركبة، لكل من الاستبداد والإمبريالية، ضمن الحالة الفنزويلية، يحضر مثال مؤسسات السلطة الشعبية "Chavista". وهي منظمات قاعدية، وشبكات خدماتية وتشكيلات شعبية، كان هوغو تشافيز قد أسس لها وأسندها طوال مسيرته. لكن هذه القواعد الشعبية شهدت تجريفًا فادحًا خلال السنوات الأخيرة، بفعل الحصار الخارجي والتضييق المحلي معًا. ما شكل عاملًا مضافًا لغلق أفق التعبير السياسي بما هو أداة أولية لتقرير المصير. 

 يتطلب تناول "المسألة" الفنزويلية اليوم، كخطوة أولى، إدراك مدى فداحة الأزمة الإنسانية في البلاد، وهو ما فشل مادورو فيه وأسهمت واشنطن في خلقه

أما دون تقرير المصير وقبله وبعده، فمن المبادئ السياسية والدبلوماسية الدولية المعتمدة، على الأقل بعد مجزرة الحرب العالمية الثانية في عالم الـ"النيوديل" مالا يقل عن دزينة من المبادئ الشاخصة التي يمكن الرد على خطاب واشنطن ضد كاراكاس وفقها، ليس عدم التدخل يتيمًا بينها. وإن لم يكن من منطلق قدسية دماء الشعوب ومصائرها، فليكن في باب تقليعات السيادة الوطنية!. والدعوة لعدم التدخل هنا، إن لم تؤخذ مأخذًا أخلاقيًا، فلتكن على قياس حسابات الورقة والقلم، فما الذي جلبه غزو العراق، وأمريكا الوسطى والجنوبية بمعظم بلدانها، استخباريًا وانقلاباتيًا، بدعم واشنطن وترسيمها النفطي جدًا؟! 

يتربع على رأس هرم أولويات أي تناول يساري تحرري، قبل الاصطفاف، تحري التضامن مع من هم تحت حقًا. أي الوقوف مع الطبقات المفقرة، النساء، الأقليات المهدورة والمعرضة للتمييز والعنصرية. بل مع أي فرد أو كتلة عرضة للتهميش سواء كان اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا  أو ثقافيًا. فالوقوف إلى جانب المظلوم ومعه يستوجب توثيق الظلم الواقع عليه وفهم أسبابه الجذرية والعمل على ما يمكن أن يدعم جهوده للتغلب على حالة الاضطهاد التي يعانيها. لهذا  يتطلب تناول "المسألة" الفنزويلية اليوم، كخطوة أولى، إدراك مدى فداحة الأزمة الإنسانية في البلاد، وهو ما فشل مادورو فيه وأسهمت واشنطن في خلقه. وهو في ذات موضع ما يضع الشعب الفنزويلي أمام حاجة تضامن فاهم لمجريات حالته، رافضًا للتدخل الخارجي بذات القدر الذي ينبذ فيه الاستبداد، كي لا يشهد مصير عربي آخر لكن على بعد آلاف الأميال البحرية وراء الأطلسي.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أفول الإمبراطورية الممكن.. الاستثناء ليس أمريكيًا

الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين