في روايتها القصيرة "لا شيء أسود بالكامل"، تقدم الكاتبة اللبنانية عزّة الطويل نصًا متفرّدًا يقتحم السرد من زاوية غير مأهولة، حيث يعيد تشكيل العلاقة بين الحياة والموت في إطار بنية سردية تتحدى الأنماط الروائية التقليدية. الرواية ليست مجرد مغامرة أدبية في التجريب، بل دعوة صريحة للقارئ للتورط في لعبة سردية معقدة تتشابك فيها الأزمنة والأحداث والشخصيات، وتبدو فيها الحكاية أقرب إلى قطع بازل متناثرة لا تتكامل صورتها إلا في لحظة النهاية.
في روايتها القصيرة "لا شيء أسود بالكامل"، تقدم الكاتبة اللبنانية عزّة الطويل نصًا متفرّدًا يقتحم السرد من زاوية غير مأهولة، حيث يعيد تشكيل العلاقة بين الحياة والموت في إطار بنية سردية تتحدى الأنماط الروائية التقليدية
منذ الجملة الأولى، تنصب الطويل فخًا ذكيًا للقارئ، إذ تختار مخاطبته بلغة مفتوحة تفسح له المجال للولوج في مستويات متعددة من التأويل. تبدأ الرواية بمشهد موت جنين، وهو حدث تتعامل معه الكاتبة كرؤية رمزية تهز القناعات الراسخة حول الحياة والموت، وتحولهما من ثنائية بسيطة إلى جدلية فلسفية متحركة تستمر في التفاعل داخل النص.
تقول الساردة في أحد المقاطع: "الموت ليس حدًا، بل خط رفيع يعبر الحكايات كما تعبره الحياة، محاولًا إكمالها دون أن يُغلقها". في هذا التناول، يصبح الموت أكثر من مجرد واقعة، بل محورًا يعيد ترتيب الأزمنة والمسارات، ويمنح النص طابعًا تأمليًا لا ينفصل عن جوهره السردي.
بنية الرواية المتشظية تتحرك بخفة بين قصص متفرقة، حيث تتناوب القصاصات على سطح النص دون أن تلتزم بتسلسل زمني أو درامي تقليدي. هذا الأسلوب لا يضع القارئ في موضع المتلقي السلبي، بل يدفعه إلى شراكة حتمية في فك تشابك النص وربط أجزائه المتناثرة. الموت هو الرابط الخفي الذي يجمع بين هذه القصص، لكنه في الوقت نفسه أداة تحول كل لحظة إلى مساحة تأمل مفتوحة على احتمالات غير متوقعة.
كاتبة الرواية لا تكتفي باستخدام الموت كموضوع درامي، بل تعيد صياغته كقوة سردية تُفكك الزمن وتُجبر القارئ على إعادة التفكير في حدود الحكاية نفسها
من منظور نقدي، يمكن النظر إلى الرواية عبر عدسة النقد الشكلاني الروسي، خاصة في استخدام عزة الطويل لفكرة الإغراب، أي تقديم المألوف بطرق غير مألوفة لخلق تأثير جديد على القارئ. عزّة الطويل لا تكتفي باستخدام الموت كموضوع درامي، بل تعيد صياغته كقوة سردية تُفكك الزمن وتُجبر القارئ على إعادة التفكير في حدود الحكاية نفسها.
الرواية تثير مقارنة مباشرة مع أعمال روائية عالمية استندت إلى بنية الحكاية لتفكيك التجربة الإنسانية. يمكن موازنة نهج الطويل مع "الأمواج" لفيرجينيا وولف، حيث يتنقل تيار الوعي بحرية بين الداخل والخارج ليقدم صوت كل شخصية في تشابك حميمي. لكن بينما تجعل وولف التجربة الفردية محورًا لسردها، تُضفي الطويل على الموت طابعًا جماعيًا يعبر بين الشخصيات، ليصبح الرابط الوحيد الذي يفسر التداخل بين الأزمنة والقصص. تقول الطويل: "الموت هو المرآة التي ترى فيها الشخصيات نفسها، لا لتعكس وجوهها، بل لتعيد تشكيل ملامحها."
أما لغة الرواية، فهي العنصر الذي يمنح النص بعده الأعمق. تعتمد الطويل على أسلوب شعري مكثف يجعل لكل كلمة ثقلًا مستقلًا، تُرسّخ من خلاله البنية التأملية للنص. تقول الكاتبة في أحد المقاطع: "الندوب ليست بقايا ألم.. بل شواهد على النجاة، ممهورة بأسماء من عبروا هذه الحكاية." هذه اللغة، التي تمزج بين الحسية والرمزية، تجعل السرد مفتوحًا على مستويات متعددة من التأويل، وتمنح القارئ شعورًا دائمًا بالتأمل في التفاصيل الأكثر خفاءً.
الطابع التأملي المفتوح للرواية يقرّبها من نصوص وجودية مثل "المرأة المدمَّرة" لسيمون دي بوفوار، حيث يُعامل الموت كقوة مهيمنة تُعيد صياغة الحياة في ظل حضوره المستمر. لكن الطويل تتجاوز هذا التناول لتُقدّم الموت كمساحة رمزية تمنح الشخصيات فرصة لمواجهة ذاتها وإعادة تعريفها، ليس بوصفه النهاية، بل بوصفه عنصرًا يترك أثرًا مستمرًا في الزمن.
الطابع التأملي المفتوح للرواية يقرّبها من نصوص وجودية مثل "المرأة المدمَّرة" لسيمون دي بوفوار، حيث يُعامل الموت كقوة مهيمنة تُعيد صياغة الحياة في ظل حضوره المستمر
رغم تعقيد البناء السردي، تنجح الطويل في الفصل الأخير في إعادة تجميع الخيوط المبعثرة، ليكتشف القارئ أنه كان جزءًا من لعبة سردية محكمة. هذا التداخل بين القصص لا يُقدّم كحل نهائي، بل يترك مساحة كبيرة للتأويل، مما يمنح القارئ شعورًا بالمشاركة في إنتاج المعنى. السرد هنا مشاكس ومراوغ، يختبر صبر القارئ، لكنه يكافئه بتجربة لا تُنسى.
تقول الكاتبة في ختام الرواية: "ليس هناك شيء أسود بالكامل.. حتى في أعماق الغياب، يختبئ شعاع ينتظر من يراه". هذه العبارة ليست مجرد نهاية رمزية، بل هي الخيط الذي يربط بين فلسفة الرواية وبنيتها السردية. بهذا الشكل، تتحول "لا شيء أسود بالكامل" إلى أكثر من مجرد نص أدبي؛ إنها تجربة فكرية وعاطفية تدعو القارئ إلى التفكير فيما وراء السرد، والغوص في أعماق الحكاية بحثًا عن ذلك "الشعاع" المخفي.
في النهاية، تُعيد عزّة الطويل تعريف الحدود بين السرد والفلسفة، وتقدّم رواية تترك أثرها ليس فقط على القارئ، بل على النصوص التي ستأتي بعدها، لتبقى تجربة "لا شيء أسود بالكامل" نموذجًا لمغامرة سردية جريئة تحسب للكاتبة، خاصة وأن "لا شئ أسود بالكامل" هو التجربة الروائية الأولى للكاتبة اللبنانية عزة الطويل.