15-مايو-2020

الذكرى 72 للنكبة

لسببٍ أو لآخر لا أرتاح لهذه الكلمة. لا يُعجبني جرسُها الجنائزيّ، ولا جوّها الفجائعيّ، ولا لطميّتها الذاتيّة.

لا فاعل لها، وكأنّها القدر الأعمى، وكأنّها المشيئة المكتوبة التي لا رادّ لها، وكأنّها حادثةٌ من حوادث الزّمن ومصيبةٌ من مصائبه، جائحةٌ من تلك التي يجب أن يُصبر عليها، ويُعضّ على جروحها. ليست: التّقتيل، ولا التّشريد، ولا التّذبيح؛ ليست الطّرد؛ فهذه كلّها لها فاعل معقولٌ مفهومٌ يُمكن مواجهته باليد وبالعين وبالسنّ والبادئ أظلم، أمّا "النّكبة"، هكذا، كمساحة لغويّة تجريديّة واسعة كاسحة، فتسونامي تاريخي نهرب منه ونتّقي شرّه.

من وَضَع هذه الكلمة –لا بدّ- كان يريد ألّا يخوض المعركة، كان يُعلن استسلامه ابتداءً أمام قوّةٍ من قوى ما وراء الطّبيعة، يطلبُ مِنّا أن نستحضرها برهبة، أن نكتفي بالاستذكار ونستنكف عن الفعل، يضعنا مرّة بعد أخرى أمام تراجيديا أسطوريّة جديرة بعالم الآلهةِ التي لا قِبَل لعالم البشر بها. إنّها الطوفان، الفيضان، الزّلزال، البركان.

أيّها الفرد السّاذج المنخرط في معركة تَدْفَعُكَ ولا تَدْفَعُهَا، تَدْفَعُ فِيها ولا تَدْفَعُ لَك، لستَ قضيّتك، لكنّك لا تدري، فالجاهل –كما يقولون- عدوّ نفسه

من وضع هذه الكلمة كان يريدها ذكرى لماضٍ بعيد، نُصبًا نحجّ إليه سنويًّا لنتلو أمامه آياتٍ من المحفوظات المكرورة، ونؤدّي الطّقوس المكرورة، ونسمع الخطبة المكرورة، وندير ظهورنا لظلال المذابح وكفى. رُفع النّصبُ وكفى، وما على المؤمنين سوى الاستذكار.

ومرّت علينا القصّة، منذ اثنتين وسبعين سنة وهي تمرّ، ومرّت فوقها النّكسة، والعدوان، والاجتياح، والسّلام، والتنسيق الأمنيّ، حتى باتت أجسادنا كإسفلت الشوارع المرصوص الجاهز لتعبر من فوقه جنازير الدبّابات، وعجلات الطائرات المُقاتلة، وأرتال المُشاة، وهي في طريقها للقضاء علينا. فبينما العدوّ الشبح هناك يغفو مُحاطًا بهالته الحامية، مُلقيًا بعضًا من ألعابه النّاريّة بين الحين والحين، صرنا نحن الأهداف إذ اكتشف بعضنا الخيانة، واستيقظ بعضنا من الخديعة، فانصبّت فوق رؤوسنا جميعًا لعنةٌ تعويضيّة، استبداليّة: إن لم تقدر على الحمار فعليك بالبردعة. صرنا بردعة الحمار تحت ظلال النكبة.

وتحت ظلال النّكبة أيضًا، مرت مراحل ثلاث بسرعة البرق، في عقودٍ ثلاثة: انتهت مرحلة فلتسقط "إسرائيل" إلى مرحلة ترويج "السّلام" وثماره وعسله، وحين ثبت أن ثلّاجة الصهاينة خالية سوى من الجثث، دخلنا مرحلة البجاحة المُطلقة، فإذا المُعاهدات عقود عمالةٍ مباشرة، وإذا الحقوق والمذابح والطّرد واللّاجئين والاستعمار الاستيطانيّ والظلم التاريخيّ وثائق تُطعَم لآلات تمزيق الأوراق النّهمة، وإذا المجموعات الحاكمة –وهي ترجو، وتأمل من، القوى الإقليميّة والدوليّة، أن تنظر إليها بعين العطف، وتُبقيها، إلى الأبد، في خدمتها، على رأس كياناتها الوظيفيّة المُتداعية- تحتسب ما صار في ذمّة التاريخ، واقعةً ماضيةً من وقائع التاريخ، ولا ضير من إعادة كتابة التاريخ بعد أن مرّت الواقعة نفسها، وبقيت شاهدة القبر علامة وحيدة عليها، تُزار كلّما حلّت الذّكرى.

وهذه المرحلة الثالثة، مرحلة البجاحة المُطلقة، لها علامات:

علامتها أن تُحوِّل العدوّ التاريخيّ، إلى مُهيمنٍ تاريخيّ (في الإعلام يخفّفونها، يقولون: "حليف"، والتّحالف علاقة أنداد، لا علاقة أقوياء بمساكين، مُستقلّين بتابعين، حاكمين بمحكومين)؛ علامتها أن تَسحب المليارات من جيوب مواطنيك المُفقرين، واقتصادك المنهك المُدمَّر، وخزينتك المَدينة، لتشتري بها غازًا من الصهاينة لا حاجة لك به، ليتمكّن نتنياهو من تمويل قضم الأغوار والتلال والوهاد، وابتلاع المزيد من المقدّسات، ومن "تهديدك استراتيجيًّا"، فتنوح وتندب وتستنكر، وماذا بيدك أن تفعل –تشكو مُخْلِصًا- سوى الحديث في محافل دوليّة لا تحفل بك، وأنت عاجز، وهو –العدوّ- يملك كلّ الأوراق، بعد أن سلّمته رقبتك؟

علامتها أن تخوض معركة ضد خطر نوويّ مُستحدث في علمِ الغيب ما يزال، بعد أن تبيع نفسك للخطر الاستعماري الاستيطاني صاحب الـ200 قنبلة نوويّة حقيقيّة؛ علامتها أن تصحو لتجد أن الحقّ، كلّ الحقّ، على المذبوحين (لماذا لم ينتحروا من تلقاء أنفسهم؟) وعلى المطرودين (كان عليهم أن يخرجوا مشيًا إلى الخلف، مُلقين بالورود والرياحين والرز على إرهابيّي الهاجاناه) وعلى المُحاصرين (فشلوا في المشي نحو أعماق بحر غزّة، وتحويل أنفسهم إلى طعام لأسماكه)؛

علامتها أن تجتاح مواقع التّفاهة الاجتماعيّة وسومٌ تحظى –قطعًا- برعاية رسميّة، لتدعم مسلسلات رمضانيّة تُبث على قنوات التّفاهة التلفزيونيّة، تقول جميعها بلسان واحد: فلسطين ليست قضيّتي. صَدَقْتَ يا هذا الّلسان، فقضيّتك أن تلعق البساطير وتلحس ذيول الأردية وتستمني ليلًا على قائمةٍ من السِّلَعِ المِغناجة المبثوثة في الفواصل الإعلانيّة. أنت نفسك، أيّها الفرد السّاذج المنخرط في معركة تَدْفَعُكَ ولا تَدْفَعُهَا، تَدْفَعُ فِيها ولا تَدْفَعُ لَك، لستَ قضيّتك، لكنّك لا تدري، فالجاهل –كما يقولون- عدوّ نفسه.

ويقول اللسان بعد أن يلهث ويجفّ لعابه: ثمّ، أيّها الإرهابيّ المخرّب، كيف تتجرّأ على رمي الدبّابة بحَجَر؟

بالحَجَر نكسر زجاج المرايا المُشوِّهة، والعدسات المُحوِّلة، فيظهر أمامنا الاستعمار وهو يندحر حال تحقّق الشّرط التاريخيّ (تظهر الجزائر)، وبالحَجَر نفهم أنّ الشّرط التاريخي يحتاج يدًا فاعلة تثقب بالونات الكيانات الماصّة

من هنا، من الحَجَر تحديدًا، نبدأ إعادة التفكير بالنكبة، نفكّكها إلى عناصرها الأوليّة، ونكشف كنهها بعد تعريتها من السّواتر الدخانيّة. القاتل والمجرم واضح ومعروف، وله اسم: "إسرائيل"، آخر مشاريع الأوروبيّين البيض الاستعماريّة الاستيطانيّة، مشروع لم يُكتب له الثّبات التاريخيّ بعد، وله، مثل كل مشاريع الاستعمار التقليديّة التي أتلفت وثائقها في آلات تقطيع الأوراق الشّرهة، أعوان، عملاء، يتحدّثون باسم العقلانيّة، والواقعيّة، وضرورات المرحلة، ليصلوا بالمجرم إلى حالة تتطبّع فيها جريمته، وتصبح عملًا من أعمال بناء "الدّولة"، ويُصبحون هم –بلا فخر- كذؤابة الأسد (ملاحظة: ذؤابةُ الأسد: شعر قفاه).

بالحَجَر، نُنهي الحَجْر الأبديّ لصنم النّكبة، بالحَجَر نكسر زجاج المرايا المُشوِّهة، والعدسات المُحوِّلة، فيظهر أمامنا الاستعمار وهو يندحر حال تحقّق الشّرط التاريخيّ (تظهر الجزائر)، وبالحَجَر نفهم أنّ الشّرط التاريخي يحتاج يدًا فاعلة تثقب بالونات الكيانات الماصّة، المُخفّفة، الواقية، يدًا تدفع بالمجموعات الحاكمة، راعية بقاء التبعيّة، وبقاء الدّين، وتعطيل التنمية، وتمدُّد "إسرائيل"، إلى قبرها الذي تقف –دومًا- على حافّته.

في ذكرى النّكبة، علينا أن نُلقي بهالة الرّهبة-النّكبة بعيدًا، ونبدأ العمل.