17-مارس-2019

غرافيتي لماركس في برلين

في "أطروحات حول فيورباخ"، يقدم الفيلسوف وعالم الاقتصاد كارل ماركس أطروحته الحادية عشرة على الشكل التالي: "لم يفعل الفلاسفة شيئًا سوى تفسير العالم بطرائق شتى، لكن الأهم هو تغييره". قصد ماركس في هذا المضمار أن على الفلاسفة واجب الانخراط  في الواقع ومعه بدلًا من التحليق فوقه، وأنه يتوجب أن تنزل الفلسفة إلى الشارع. بالفعل لقد أنزل ماركس الفلسفة إلى الشارع، وقد اعتُبرت كتاباته وأفكاره فلسفة الطبقة العاملة طيلة فترة الاعتقاد الطويلة أن هذه الطبقة هي التي ستغير العالم، بل هي التي ستقود تغييره! إنه لأمر مثير أن تكون أفكار فيلسوف كبير، مثل كارل ماركس، هي حمولات الفقراء والكادحين والمظلومين.

إنه لأمر مثير أن تكون أفكار فيلسوف كبير، مثل كارل ماركس، هي حمولات الفقراء والكادحين والمظلومين

تغيير العالم الذي أراده ماركس هو تغيير جذري، بمعنى قلبه رأسًا على عقب، فأفكاره تقول ذلك. واعتبره تاريخ الفلسفة، أقله القسم المنحاز له، أنه فعل ذلك بفلسفة هيغل، وجعلها تمشي على قدميها عوضًا عن أنها كانت تمشي على رأسها! ماركس قرأ الرأسمالية بعمق ومعرفة تجعلنا نعتقد، من شدة معرفته بها وبقوانينها وبمساراتها، أنه هو الذي صنعها أو خلقها! وقد اعتبرها الشر الذي لا بد للعالم من محاربته بكافة السبل، لا بد من عالم خال من الرأسمالية، وهذا العالم المشتهى هو النقيض الجذري لعالم الرأسمالية، لذلك لا بد من تغيير هذا العالم جذريًا، ولا بد للفلسفة أن تنخرط بهذا التغيير.

اقرأ/ي أيضًا: 7 أفكار قالها ماركس نحتاجها اليوم

لكن هل حقًا أن الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم؟ يجيب سلافوي جيجيك بـ"لا" كبيرة، ويرى أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ تغيير، أو محاولة تغيير العالم، ويرى أن هيغل وحده اختار أن يكون متأملًا فقط، ومع هذا فقد كانت فلسفته منطلقًا كبيرًا لمحاولات تغيير جذرية.

تجري مناقشة جيجيك فيما قبل ماركس، وما يهمنا هنا هو ما بعد ماركس: هل لم يزل الفلاسفة يكتفون بتفسير العالم؟ وهل حقًا فسروه التفسير الصحيح؟ وللإجابة يمكن القول إن الفلسفة بعد ماركس اكتفت بتفسير آرائها، قدمت قراءات عديدة ولا تحصى عن قراءات، ما يعني أنها إما لم تزل/ أو أنها عادت للتحليق فوق الواقع.

بالاطلاع على الفلسفة ما بعد ماركس يمكن أن نجدها غارقة بالأفكار، ومغرقة بمناقشة هذه الأفكار، وبعد أن أنزل ماركس الفلسفة إلى الشارع أعادها لاحقوه إلى الأبراج العاجية وجعلوها للفلاسفة فقط، وبعد أن كان ماركس فيلسوف الطبقة العاملة بوصفها حاملة التغيير المنشود، لم يعد ثمة فلسفة للمجتمعات ما بعده، ولم يعد ثمة فلاسفة للناس.

بالعودة إلى أحد أسباب ذلك نجدها في ماركس نفسه! نعرف كقراء ومهتمين و"ماركسيين" أن "سمعة" ماركس في العالم لم تعد هي نفسها منذ انهيار الأيديولوجيات والأنظمة السياسية التي تبنت أفكاره. بل حقيقة، قبل ذلك بكثير، منذ أن أظهرت تلك الأنظمة ممارسات فظيعة من الطغيان والفساد في العالم، وتم تصنيفها كأنظمة دكتاتورية وفاسدة. وهذا "دمّر" الفيلسوف الكبير. يرى المفكرون أن انخراط ماركس الكبير والفائض عن الحاجة في الواقع هو الذي "دمّره" وآل به إلى هذا المآل! لذلك اتخذت الفلسفة خطوة استباقية ولم تنخرط إلا نادرًا وبحدود دنيا في الواقع لئلا يتم تدميرها.

لكن بالمقابل ثمة انخراط قوي للفلسفة في الواقع، ثمة الكثير من الحركات الاجتماعية نشأت بناء على تحرك فلسفي، أو أن الفلسفة استجابت لحركة الناس وأسست لها أطرًا: النسوية فلسفة أيضًا، وحركات المهاجرين فلسفة أيضًا، نحن نعرف التيارات ما بعد الكولونيالية وكيف أثرت على الوضع ليس الاجتماعي فحسب، بل الفلسفي برمته... إلخ.

ثمة الكثير من الحركات الاجتماعية نشأت بناء على تحرك فلسفي أو أن الفلسفة استجابت لحركة الناس وأسست لها أطرًا

لكن النتاج الفلسفي المعاصر نحا، وينحو باتجاه تأسيس قوي لسياسات الهوية الأمر الذي وضع الاستغلال الرأسمالي الفاحش للفقراء بين قوسين! وبهذا تبدو الفلسفة وكأنها أعانت الرأسمالية عبر إزاحة المناضلين ضدها لأجل حقوقهم، ومنحتها أساليب نافعة لإطالة أمدها.فبدلًا من أن تناضل الفلسفة مع الفقراء، ناضلت ضدهم، وبدت الرأسمالية على أنها "شيء" نافع إذ أنها تدعم النشاطات التي تقوم بها "سياسات الهوية" وتموّلها أيضًا.

عندما تخاف الفلسفة على نفسها تنعزل عن حركة الناس والمجتمعات، فيبقى التعبير عن هذه الحركة حكرًا على السياسة التي تعمل إما وفق مبادئ راهنة وقابلة للتغيير والتعليق والتأجيل، أو بلا مبادئ، وهذا يقود الناس والمجتمعات نحو أمكنة لا تريدها الفلسفة فيحدث "سوء فهم؟" بين الفلسفة والناس.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يتعرض ماركس للهجوم في قبره؟

مع هذا، لم ينوجد جدار عظيم بين تفسير الواقع وتغييره، بل كان ثمة تفسير وتغيير معًا. الأمر يتوقف على النوع الفلسفي من حيث هو: إما فلسفي محض: "مدرسة" هيغل. أو اجتماعي: "مدرسة" ماركس. وثمة من يفسر أطروحة ماركس التي بدأنا بها أنه لم يقف على الضد من تفسير العالم، بل نوه إلى ضرورة تغييره أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

ماركس والطبيعة البشرية

ماركس المغبون بسوء تأويل "أفيون الشعوب"