11-مايو-2017

بورسعيد 1930 (ويكيبيديا)

كانت الإضاءة خافتة، رؤيتي مشوشة وأكاد لا أسمع شيئًا مما يقال حولي، أفتح عيني وأرى كل الوجوه باهتة وأغيب مجددًا في النوم، لم أكن واعيًا بما يحدث، فقط كنت أحاول التركيز وسرعان ما يتهاوى وعيي كطفل صغير يحاول الوقوف على قدميه ويقع، ظللت هكذا لعدة أيام، ولما استعدت وعيي في صباح أحد الأيام رأيت وجوهًا مألوفة بالنسبة لي: أبنائي وزوجتي وأخي محمود وأختي سميرة والصغرى وفاء، سمعت الطبيب يمازحني قائلًا "إيه؟ ما وحشكش البيت ولا إيه ياعم عربي؟ قوم نام في بيتكم أنت بقيت عال، ولو عاوز تشوف الممرضات ابقى خدهم السيما يا راجل".

لم أشعر بتحسن صحتي كما يقول الطبيب، وفهمت الرسالة عندما انتحى بخالد -أكبر أبنائي- جانبًا وتحدث معه، رأيت الموت يكسو ملامح الولد فتظاهرت بالصحة، أخبرتهم برغبتي في العودة للمنزل ووافقوا، وضعوني في سيارة أجرة يعمل عليها محمود ابن سميرة ورحلنا من المستشفى.

لم أغادر الفراش منذ عودتي للمنزل، كنت أفيق لدقائق أرى فيها أحد الأصدقاء القدامى أو الأقارب وأتأمل دموعهم وألسنتهم التي تلوك بلا صوت وأسقط مجددًا في عوالم أخرى بعيدة، عوالم خاوية تمامًا، ربما هي تلك عوالم التي يمكن أن يسمع فيها دبة النملة بالفعل، ربما حياتي لم تكن ثرية مليئة بالمغامرات، لكنها لم تكن خاوية أيضًا، ورغم ذلك لم أستطيع تذكر أي شيء غير التفاح الأمريكاني!

في طفولتي، كنت أرى التفاح الأحمر في الأفلام فقط، يأكله كفار قريش وأحمد مظهر ورجال العصابات ممن تبيت لديهم الراقصات دومًا، لذلك حين علمت أن التفاح الأحمر هو الأمريكاني، سألت كيف كان يصل لكفار قريش؟

كان للتفاح الذي نأكله ألوان أخرى، وكان يشغلني هذا الأمر حينها، حتى أنني حاولت تلوين التفاح العادي الذي يشتريه لنا أبي في المناسبات، وطلبت من أمي أن تشتري لنا الأحمر أو تستأجره لنراه فقط، ولما حدثتني عن غلاء ثمنه قلت لها: "اعملي جمعية للتفاح الأحمر، إش معنى جمعية الكسوة وجمعية الأضحية والمدارس؟". ثم اعتقدت بعدها، ولفترة طويلة، أن التفاح الأمريكاني غير حقيقي، ربما مكوّن من البلاستيك، وربما توجد حيلة سنيمائية في الأمر، وتجاهلت الأمر برمته.

في صيف عام 1971، سافرت مع أبي إلى بورسعيد، كانت أسرتي قد قبضت جمعية الكسوة كما تسميها أمي فقرر أبي شراء الملابس من بورسعيد، حينها كنت صبيًا وكانت بورسعيد متجرًا كبيرًا، كانت جسرًا يصلنا بالعالم الخارجي، هناك، حيث كل شيء مستورد، التقيت التفاح الأمريكاني. ما زلت أذكر تفاصيل اللقاء كأنها حدثت بالأمس، مررنا ببائعي الفاكهة وكنت أجول ببصري كعادتي في تفحص الأماكن الجديدة، ما أن أبصرت التفاح الأحمر حتى تسمرت قدماي! إنه يرقد هناك حقًا، بلا كاميرات ولا شاشات التلفاز، لم أستطع إكمال المشي مع أبي، كل ما فكرت فيه حينها هو أن ألمسه وأطيل النظر إليه، سألني أبي عما أوقفني هكذا كصنم، فأشرت نحو التفاح قائلًا: "التفاح الأمريكاني هناك أهو"، نظر لي حينها نظرة أعرفها جيدًا، تلك التي تعني امش بالذوق، ولم أكن أطمح بطبيعة الحال إلى شراء كيلو منه، فقد كنت أعلم بحدود ما يمكن أن أحلم به، وكنت أدري أيضًا بأنني لست أحمد مظهر. تحركت مع أبي مستسلمًا ولكن أوقفنا مهندس كبير كان أبي قد عمل سائقًا معه بنفس الشركة فيما مضى، كان المهندس يحمل معه لفة ورقية ممتلئة عن آخرها بالتفاح الأحمر، تجاذبا أطراف الحديث قليلًا، وكنت أنظر لما في يد الرجل فقط ولا أحول نظري عنه، حينها طلب منه أبي، برقة أب وبابتسامة ريفية كان يتكلفها عند الشعور بالحرج، واحدة لي، أعطاني الرجل واحدة وأخذتها منه كمن يتسلم ميدالية نجمة من السماء. 

في طريقنا للعودة كنت سعيدًا بها ومأخوذًا لأقصى درجة، نظرت إليها طويلًا وكدت أتحدث إليها، تمنيت لو طال بقاؤها معي، لكني قررت التهامها قبل الوصول للبيت، إذ كنت أعلم ما يعنيه العودة بكنز كهذا، سيتم تقسيمه حتمًا على أربعة وسيصبح نصيبي منها الربع، ولكن حدث ما لم أحسب له، فقد نمت ولم أستيقظ إلا على صوت إخوتي في استقبالنا بالسيارة!

كانت ذكرى ربع التفاحة هي الشيء الوحيد المسيطر على عقلي في الفراش، لهذا كلما أفقت وسألتني زوجتي أو أبنائي عما أريد، كنت أجيب على الفور "تفاح أمريكاني.. خلوا محمود وسميرة ووفاء يجيبولي تفاح أمريكاني".

 

اقرأ/ي أيضًا:

اغتيال ابتسامة

الجوع الذي هناك