27-فبراير-2017

منى كراري/ تونس

عزيزي جيمي ألن، ربما لا تذكرني جيدًا. جمعتنا مادة التعويضات الجزائية. كانت تفصلنا بضعة صفوف من المقاعد؛ أنت في أول المدرج الصغير وأنا قبل نهايته بقليل. كان أستاذ المادة يرى فيك مشروع محام لامع. وحيث تبدأ كل أجوبتك بـ"depends" كنت تبدو سيلًا غير متناه من التشعبات السخيفة المنافية لطبائع الأمور. 

دائمًا تملك فرضيات وبدائل للفرضيات البديلة، ودائمًا تجد مادة للنقاش. تناقش حرية الاختيار وتفترض عدم الأهلية، تناقش نظرية الحتمية وتفترض أنها الأصل، تناقش كون الفعل مجرمًا وتفترض عدم العلم، تناقش إمكانية توقع النتيجة وتفترض غيابها في جرائم الدولة. غبي وكأن حسن نية الدولة قابلة للافتراض!

سمعت أن حادث قطار مؤسف أودى بحياتك البارحة. غريب أننا لم نلتق بعد. طبعًا لا ألمح إلى خبث روحك أو طيبتها كأساس لاحتمال اللقاء؛ فنحن هنا نوزع حسب سبب الموت فقط، فقتلى الحوادث يوضعون في مكان، وقتلى الحروب في آخر، وقتلى الدولة في ثالث يتمدد على حساب المكانين السابقين، منشآته تتضاعف وكذلك حرسه وقوى الأمن حوله. قتلى الأسباب الطبيعية هم الأقل حظًا فوضعهم ملتبس وغالبًا ما تتم إعادة توزيعهم.

هكذا توزعنا السلطات، ثم نتولى بعدها أمورنا في التكتل. قتلى حوادث العمل في زاوية، وقتلى حوادث الطرق العامة في زاوية مقابلة، قتلى حوادث البحرية يحتلون الأسِرة العلوية، ولهم القول الفصل حين يحتد النقاش. يلتف كل واحد من الوافدين الجدد على جماعته الذين يشاركونه سبب الموت الدقيق، يتبادلون التجارب: آخر ما رأوه، وصف تقريبي للشعور، لون برق فجاة، أو صوت توهموه، ومتى اجتمع ثلاثة، حتى لو بتواطؤ، على اختباره، يصير متطلبًا إضافيًا لإقرار التجارب. ثم يتم الغربلة شيئًا فشيئًا حتى يجد كل ميت نفسه وحيدًا لا يشاركه في التفاصيل الصغيرة أحد.

تحدث أحيانًا بعض الأخطاء. مرة سيق إلينا عجوز مسكين. زجته اليد الغليظة من درفة الباب، غير عابئة بتوسلاته "أنا لم أمت، يا جماعة الخير لم أمت". كان يضرب الباب بما تبقى من رجله المقطوعة. بقينا صامتين، المشهد المعتاد يمضي بلا وقت، لا وجود للوقت هنا، أو أن إحساسنا به تعطل لسبب ما. وحدة فواصلية من نوع ما مرت قبل أن تمد اليد الغليظة ذاتها وتسحب المسكين؛ تبين أن الذي قتله كان أزمة قلبية بفارق ثوان عن اصطدام سيارته بأحد أعمدة الإنارة. المسكين ظل يرفس ويقول "لم أمت، يا أولاد الحرام لم أمت". هؤلاء العجائز! وكأن سببين للموت الشنيع لا يكفيان! 

أنت تعرف أن الأحوال هنا صعبة بعض الشيء، فبالإضافة إلى اليأس وانعدام وسيلة الخلاص والتكرار الممل للقصص، هناك الأشكال المخيفة التي نحبس فيها ومعها. نحن لا نعرف أشكالنا الشخصية. لا انعكاسات تقريبية. مرة سألت أحدهم أن يصف لي كيف أبدو. ارتجفت شفته السفلى وبكى، لم يعد بعدها ينظر إلي رغم أنه كان أحيانًا يحدق باتجاهي حتى ظننته مشروع معجب. وكأنه بعدما سألته للتو فقط رآني حقًا. 

نحن هنا في زاوية حوادث القطارات تصلنا الأخبار تباعًا عن مهاراتك وأعمالك الفذة في خدمة الدولة ومرافقها العامة. تصيب بعضنا نوبات قلق وأحيانًا هستيريا من نسب الأرباح التي تحمل أراملنا وبعض الورثة على التوقيع عليها بعد كل قضية تعويض. "ننجح" أحيانًا بتهدئتهم وقت نذكرهم أنهم لم يعودوا مسؤولين عن ذلك، وأغلب الأحيان يكون هذا سببًا إضافيًا للفزع.

قد تتساءل من أقصد بنون الجماعة هنا، أنا أقصد أولئك الذين رموا أنفسهم في مسار القطار. تمامًا قبالة كاميرات المراقبة لتسقط فرضيتك بالدفع المتعمد. تمامًا قبل مسح عمال النظافة للمحطة لتسقط فرضيتك في نسب الصابون المبالغ فيها. تمامًا قبل ساعة الذروة لتسقط فرضيتك في مسؤولية الدولة التقصيرية عن التخلص من الأعداد الزائدة للشعب. تمامًا مبتسمين لتسقط آخر فرضياتك باحتمال الاكتئاب من متطلبات الحياة.

عزيزي جيمي ألن جل ما أخشاه أن تكون قد مسخت سكة حديد طويلة وصدئة تدوسها القطارات مرارًا ودعك من فكرة التعويض إنها حتى لا تستطيع أن تناقش.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حين يضحك البحر في بيروت

جناح لأقمار الدّاخل