05-مايو-2017

إياد قاضي/ العراق

هذا هو الجزء الرابع من أربعة أجزاء لمقال مترجم، تم نشره في مجلة "نيويوركر" للصحافي بيتر هيسلر. المقال يتناول تجربة الصحفي في تعلم اللغة العربية خلال خمس سنوات له ولعائلته، واكب خلالها الثورة المصرية، والحالة السياسية والثقافية والاقتصادية لمصر، مرورًا بحكم الإخوان المسلمين وانتهاءً بتولي السيسي لرئاسة مصر.


لم يكن إصلاح اللغة قضية بحث خلال الربيع العربي كما كانت هذه النقاشات حاسمة في عصر النهضة العربية والعروبة، ولكن بعد ذلك تمت تسوية المسألة بشكل فعال، على الأقل من حيث السياسة. ظلت الكتب المدرسية المصرية تطبع بالفصحى، والتي لا تزال اللغة الرئيسية للصحف ومعظم المنشورات الأخرى. ومع ذلك، يشير الكتاب والباحثون أحيانًا إلى مشاكل هنا وهناك، ففي عام 2003، نشرت نيلوفر هيري، عالمة الأنثروبولوجيا اللغوية في جامعة جونز هوبكنز كتاب "اللغة المقدسة، الناس العاديون". وفي الكتاب، رفضت هيري استخدام مصطلح "اللغة الأكاديمية" وبدلًا من ذلك كان تشير إلى الفصحى بأنها "العربية الكلاسيكية".

لم يكن إصلاح اللغة قضية نقاش خلال الربيع العربي كما في عصر النهضة العربية

تقول هيري: "لغة الحداثة، بالنسبة لي، تعني أنه ينبغي أن تكون اللغة الأم لشخص ما". "هذا جزء من كيف أفهم لغة حديثة على أنها معاصرة مع المتحدثين بها". وأشارت إلى أنه في حين أن أماكن مثل سويسرا الألمانية تمارس أيضًا استخدام لغتين، إلا أن الفرق يكمن في كون كل من الألمانية السويسرية والألمانية العليا تعد لغة حية، ومنطوقة. وأضافت "أن غالبية الأطفال العرب وضعوا في وضع لا يمكنني التفكير بما يعادله أو يشابهه في أي مجموعة أخرى من الأطفال في العالم".

اقرأ/ي أيضًا: تعلم العربية من الثورة المصرية (1 - 4)

ويشير كتاب هيري إلى الانزعاج الذي يشعر به العديد من المصريين من الفصحى. علاقتهم باللغة تميل إلى أن تكون سلبية، معظم الناس يفهمونها جيدًا، لأنهم يسمعونها في كثير من الأحيان، ولكنهم يرفضون التحدث بها. وكتابة الفصحى على صعيد آخر تتطلب خطوات ليست ضرورية في معظم اللغات. "إنك تترجم أفكارك بهذه الوسيلة التي لديك بإتقان أقل بكثير مما تفكر به"، قالت لي.

بعد أن نشرت هيري نتائجها، تعرضت لهجوم من قبل العديد من العلماء الغربيين في الشرق الأوسط حيث اعتقدت أن خلفيتها، وهي امرأة مسلمة من إيران، تدربت في علم اللغة وليس في دراسات إقليمية، ربما جعلتها أكثر استعدادًا لمعالجة قضية حساسة سياسيًا في دراسات الشرق الأوسط. ولكن كان هناك دائمًا مصريون يحملون رأيًا مماثلًا. وقد وصفت ليلى أحمد، الأستاذة في مدرسة اللاهوت في جامعة هارفارد والتي نشأت في القاهرة، كراهية طفولتها للفصحى في مذكرات "ممر الحدود". وتذكرت صراخها في أحد المعلمين العرب "أنا لست عربية! أنا مصرية! وعلى أي حال نحن لا نتكلم هكذا!". تعرض كتابها لهجوم قاس من قبل الناقد إدوارد سعيد، الذي رأى أنه جزء من تصور الاستشراق عن العربية. في مقال نشر بعد وفاته، كتب سعيد: "قراءة مذكرات ليلى أحمد مثيرة للشفقة يجعل الواحد فينا يشعر بالأسف لأنها لم تكلف نفسها عناء تعلم لغتها الخاصة".

مغزى أحمد، بطبيعة الحال، هو أن الفصحى ليست لغتها. لم تكن لغة إدوارد سعيد أيضًا وقد نشأ في القدس والقاهرة، وفي مقاله، يقر أنه يتحدث العربية الفلسطينية والمصرية في المنزل، وقال إنه ليس مرتاحًا للتعامل مع الفصحى في المنزل. وقد ساق تجربة إلقاء محاضرة في القاهرة، كعالم محترم، قائلًا إن له قريبًا شابًا عبر عن خيبة أمله بسبب افتقار سعيد للفصاحة. يصف سعيد نفسه بأنه "لا يزال يتسكع على هامش اللغة".

وصف إدوارد سعيد نفسه بأنه "لا يزال يتسكع على هامش اللغة"

لكنه لا يتطرق إلى السؤال الأكبر: إذا كان الناس المتعلمون يناضلون مع الفصحى، فماذا يعني ذلك بالنسبة للآخرين؟ أكثر من ربع المصريين أميون، ويصبح المعدل أعلى بكثير بين النساء، اللواتي هن أقل عرضة من الرجال للتواجد في بيئات تستخدم فيها الفصحى. الراحة في التعامل تعد قضية أخرى. تقول مديحة دوس، عالمة اللغة العربية في جامعة القاهرة: "الناس لا يكتبون، لأن هناك انعدامًا لغويًا".

اقرأ/ي أيضًا: تعلم العربية من الثورة المصرية (2 - 4)

وقد ساهمت صعوبة الفصحى في التوجه إلى استخدام اللغات الأجنبية لتثقيف طلاب الجامعات المصرية في المواد التقنية. كانت هذه هي الممارسة المتبعة في ظل النظام الملكي، لكنها استمرت أيضًا في ظل توسيع عبد الناصر للتعليم العالي. في الجامعات العامة، يتم تدريس الرياضيات والطب وبعض العلوم الصعبة باللغة الإنجليزية. قبل قرون، كان الأوروبيون بحاجة إلى اللغة العربية لتعلم الطب، ولكن في الوقت الحاضر حتى طلاب الطب المصريون لا يستخدمون النصوص العربية. وقالت دوس: "ما يحدث هو أنك تحتفظ باللغة العربية للمعارف التقليدية"، "وتصبح مع الوقت أكثر تحفظًا ومحافظة".

ويؤدي هذا الوضع أيضًا إلى عمليات انتقالية صعبة. بعد أن يدخل طالب الرياضيات جامعة عامة، يبدأ باستخدام الصيغ مع الحروف اللاتينية واليونانية، ويبدأ بقراءتها من اليسار إلى اليمين، أي في الاتجاه المعاكس لما اعتاد القيام به في صفوفه المدرسية الثانوية. ثم، في أعوامه التالية، يتغير المنهج إلى اللغة الإنجليزية. وقد أخبرني هاني الحسيني، أستاذ الرياضيات في الجامعة، أن كل هذه التحولات تزعج الطلاب وبالتالي يعتقد أنه ينبغي تدريسها بالكامل باللغة العربية. وقال الحسيني "لكن هذا يحتاج إلى الكثير من الجهود التي لم تبذل منذ مئة وخمسين عامًا". "علينا أن نترجم كثيرًا، وعلينا أن نكتب الأعمال الأصلية باللغة العربية".

يعتقد بعض اللغويين الذين تكلمت معهم، مثل محمود عبد الله، من ميدلبري أن المشكلة الرئيسية هي أن الفصحى تدرس بشكل ضعيف، وأن المنظمات الوطنية التي من المفترض أن تنظم السياسة اللغوية ضعيفة وغير منظمة.

وعلى أية حال، فإن النتيجة النهائية هي أن العرب المتعلمين ينجرفون عن لغتهم. واليوم، يتعلم معظم أطفال المجتمع الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة أو العليا بشكل أساسي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، في المدارس الخاصة.

النتيجة النهائية هي أن العرب المتعلمين ينجرفون عن لغتهم

أشرف الشريف، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أخبرني أن العديد من طلابه النخبة بالكاد يمكنهم استخدام اللغة العربية المكتوبة. وهو يعتقد أن العواقب السياسية كبيرة. وقال "إن هؤلاء سيضعون سياسة عامة حول بلد لا يعرفونه". "من الناحية العملية، أصبحوا أجانب. إنهم مستشرقون".

اقرأ/ي أيضًا: تعلم العربية من الثورة المصرية (3 - 4)

عدد قليل من الناس قادرون على تقدير العناصر الثقافية الفريدة للفصحى. يوسف رخا، وهو روائي شاب موهوب، أخبرني أن هناك علاقة خاصة تنشأ عندما يستطيع الشخص المتعلم قراءة النصوص القديمة بلغة قريبة جدًا من لغة الكتابة المعاصرة. لكنه يعتقد أن هناك تكلفة عالية للحفاظ على هذا الشكل التقليدي. وقال "إذا كنت تحافظ على شيء لوقت طويل بما فيه الكفاية، فربما يتدفق". "هذا الاستعارة تعبر عن النقاء في صورة مضادة لـ الاضمحلال".

رواية يوسف رخا الأولى، "كتاب الطغرى"، تلقت إشادة للانصهار المبتكر بين الفصحى والعامية المصرية. خلال القرن الماضي، رفض الناشرون أحيانًا الكتب التي استخدمت العامية المصرية، وحتى الروايات عن الحياة اليومية، مثل رواية نجيب محفوظ "ثلاثية القاهرة"، ظهر الحوار فيها بالفصحى التي لم يتكلمها المصريون. لا تزال اللغة العربية المصرية تفتقر إلى الاستخدام الموحد، ولكن استخدامها أصبح أكثر شيوعًا خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الإنترنت والرسائل النصية. في الوقت الحاضر، كاتب مثل يوسف رخا يمكن أن ينشر بلغة مصر العامية، ولكن إلى حد ما فقد فات الأوان، لأن الناس نادرًا ما يقرؤون الكتب العربية من أي نوع.

بالنسبة للرواية الثالثة لرخا، فقد قام بكتابتها باللغة الإنجليزية، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنه يريد جذب القراء. "كتاب ختم السلطان" تلقى قبولًا حسنًا، لكنه باع أقل من خمسة آلاف نسخة. وقال رخا إنه من الجيد للكاتب عدم القلق بشأن قضية الفصحى وتلقيها من قبل المصريين. وقال "يمكنك التفكير في أمور أخرى". "الآن لست بحاجة لصرف 25٪ من اهتمامي في التفكير بطبيعة اللغة التي سأعتبر بها عن نفسي".

عدد قليل من الناس قادرون على تقدير العناصر الثقافية الفريدة للعربية الفصحى

خلال الأشهر الأخيرة لي في القاهرة، شعرت بأنني أصبحت "عصبيًا". كل يوم، أقود بناتي عبر نهر النيل إلى مدرستهن، وهذه المحنة، الاكتظاظ، التعرج، وقوف السيارات، الحر، الأرض المحروقة، الضوضاء؛ تركتني بمزاج سيّئ حتى قبل 08:00 صباحًا. خلال صفوفنا العربية، سجل رفعت قوائم المفردات صوتيًا، ووجدت أنها تهدىء من مزاجي خلال الاستماع إلى الملفات الصوتية أثناء قيادتي. غطت بعض القوائم المسجلة لغة التحرير التي كانت قد انحرفت مبتعدة عن الماضي: "الانتخابات"، "الاستفتاء"، "الديمقراطية". وظهرت مواد أخرى من مواد رفعت، وعبرت النهر على وقع صوته وهو يقول:
أنا لن أغفر لك ما فعلت.
سأشرح لك كل شيء غدًا.
لا تضيع وقتي، من فضلك.
هل سننفق اليوم كله بالتحدث عن هذا الفيلم الغبي؟

اقرأ/ي أيضًا: الشرق الأوسط: مأساة العرب

عدة مرات توقفت في طريقي عند مدرسة كلمات لرؤية شقيق رفعت رأفت. وكان والدهم قد أطلق عليهم هذه الأسماء تيمنًا باثنين من لاعبي كرة القدم المفضلين لديه، اللذين كانا في فرق مختلفة،​ لذلك لم يكن هناك التباس حتى انضمت هذه الأسماء لنفس العائلة. وكانوا قد أسسوا مدرسة كلمات. تحطم رأفت بوفاة أخيه. كان يمر بسنة فظيعة. قبل بضعة أشهر، كان زواجه قد انهار فجأة، وكان قد أصبح طريح الفراش لمدة أسابيع نتيجة انزلاق غضروفي. وأخيرًا بدأ يعيش في مدرسة اللغة، حيث كان يؤمها بالكاد أي طالب. وقال لي: "لا بد أن أحدهم أصابني بالعين الشريرة".

لم يكن يعرف على وجه اليقين ما الذي قتل رفعت. خلال خريف عام 2015، أعطى الأطباء تشخيصات متناقضة للانتفاخ في قدميه: قال أحدهم إنها قرحة؛ واعتقد آخر أنها سرطان. ووضع ثالث بعض الكريم عليها، وقال له إن عليه الانتظار. حتى أن رفعت سافر إلى لندن، حيث اختبره طبيب لأعراض السل، وقام بتنظيف قدمه، وقال إنه ينبغي أن يتحسن. لكن الأمر ازداد سوءًا، ورفض بضعة أطباء في القاهرة رؤيته، على ما يبدو كانوا يخشون من تحمل المسؤولية. قاوم رفعت الذهاب للمستشفى، وبحلول الوقت الذي أجبره أخوته أخيرًا على دخول العيادة كان يواجه صعوبة في التنفس. وتوفي في اليوم التالي. السبب الرسمي للوفاة هو السل، على الرغم من أن أسرته تشك في أن هذا الأمر دقيق.

وكان رأفت قد التقط صورة للتقرح قبل وفاة أخيه بوقت قصير. في الصورة، كان يظهر العظم غائصًا بأكمله من القدم، ويظهر ثقب بحجم كرة التنس من الأنسجة الميتة باللون الأسود والبني والأخضر. عندما عرضت ذلك لأصدقاء من الأطباء الأمريكيين، قالوا إنه عندما يتغلب شخص ما على سرطان الغدد الليمفاوية، يمكن أن يضعف جهازه المناعي، وكان أفضل تخميناتهم أن رفعت قد عانى من التهاب بلغ ذروته بالصدمة الإنتانية المميتة. لكنهم لم يتمكنوا من التحديد على وجه اليقين، لأنه في أمريكا لم يروا شيئًا يشبه تلك الصورة. لقد أغضبني أن يموت رجل متعلم نابض بالحياة هكذا، في سن السابعة والخمسين.

رواية يوسف رخا الأولى تلقت إشادة للانصهار المبتكر بين الفصحى والعامية المصرية

في صباح أحد الأيام، قمت بزيارة مبنى سكني في شرق القاهرة حيث يعيش معظم أفراد عائلة رفعت. التقيت بشقيقته، وردية، وأخ آخر له يدعى طارق، وتحدثا عن خلافاتهم مع رفعت. وقال طارق: "اعتقد رفعت أنه من الجيد أن تخرج المرأة، وأن تسافر إلى الخارج". وأضاف "لكننا لم نفعل مثله". وقالت وردية "لم نحب طريقته في التفكير". "لكنه كان أفضل، في الواقع. عرفنا مؤخرًا أن كل ما قاله كان هو الصحيح". وبسبب تشجيع رفعت، أصبح ابنها مدرسًا للغة العربية.

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الضائع للتسامح الثقافي

من بين جميع الأشقاء، كانت وردية هي الأشبه بحركات وسمات رفعت. كان لها نفس العيون الحادة والوجه ذي العظام الجوفاء، إلا أن هذه السمات نصف المألوفة كانت محاطة بحجاب أسود. كنا في رمضان، وكانت الأسرة في صيام. 

للمجاملة، عرضوا علي الشاي، لكنني رفضته لنفس السبب. وقالت وردية: "كان لديه آراؤه الخاصة، وكان لدي آرائي الخاصة". "كانت آراؤه جديدة، وكانت آرائي قديمة". كلما ذكرت اسم شقيقها، ذكرت الله، ورددت أنا الرد الذي علمني إياه رفعت: الله يرحمه، الله يرحمه، الله يرحمه. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

نجاة عبد الصمد: لا ماء يروي الجنوب

صورة لم يلتقطها صلاح جاهين