27-مايو-2022
غرافيتي لـ آرثر رامبو

غرافيتي لـ آرثر رامبو

يكثر الحديث اليوم عن مفهوم الحداثة كمصطلح أدبي فنّي فكري واجتماعي منذ منتصف القرن المنصرم، في أقل تقدير، في حياتنا وفي الأوساط الثقافية في العالم العربي. 

 كيف أصبحت الحداثة قيمة ومقياسًا نزن بموجبه النتاج الإنساني وممارساته الحياتية والإبداعية؟ لماذا أصبحت مقياسًا للحكم؟ ثم هل حقًا أصبحت الحداثة مقياسًا؟

عالميًا، طُرح هذا المفهوم منذ القرن التاسع عشر على مستويات عديدة، أولها العمارة ويأتي بعدها الأدب والتشكيل والموسيقى وما شاكل من أبواب. واختلف الأدباء والنقاد والمختصون حول تعريفه؛ هل هو زمني يتعلق بالحاضر وتطوراته وأشكال المعاش فيه؟ أم هو مرتبط بالمنجز الفني الذي يتحقق بموجبه مفهوم "الحديث". 

وفق هذا الطرح لا غيره، يمكن أن نجد نصًا للمتنبي يكون أكثر "حداثة" من نصّ لأحد معاصرينا من الشعراء. ويمكن أن نتساءل: يا ترى هل الحداثة هي رديف الاختراق والتجاوز لما هو مألوف ومعاش؟ سؤال محقّ ومشروع ولا لبسَ فيه. منطقيًا، لا الزمن ولا الشكل يكونان شرطين لتحققها، إنما العبرة في القدرة على الابتكار والجدّة في التناول والطرح. 

هنا يدخل أيضًا مفهوم "الآخر"، أي الغرب على وجه التحديد، باعتباره السبّاق في أشكال التطور التكنولوجي وسواها في الأدب والفنون وأساليب الحياة. ثم وقبل أن يقول النقد كلمته في هذا السجال، دخلنا إلى "ما بعد الحداثة" وكأنها مرحلة اجتازها الإنسان إلى أخرى، فغدت "الحداثة" بذلك ماضيًا لنصل إلى ما بعدها أو ما وراءها وحتى بعد بعدها. 

يحدث كل هذا ونحن ما زلنا نتخبط في أمرين. الأول، تحديد مفهومها على وجه الدقة لنختلف أو نتفق ضمن حدود أو خارطة نعرف من خلالها ما هو حديث وما هو غير حديث. أما الثاني، فيتلخص في سؤال: كيف أصبحت هذه الحداثة قيمة ومقياسًا نزن بموجبه النتاج الإنساني وممارساته الحياتية والإبداعية؟ بتعبير آخر، لماذا أصبحت مقياسًا للحكم؟ ثم هل حقًا أصبحت الحداثة مقياسًا؟ أسئلة وأسئلة ولا إجابات شافية. 

لا ندّعي هنا أننا نقيم الكلمة الفصل والحكم في كل هذا الذي يعتمل في حياتنا الثقافية والاجتماعية منذ عقود طويلة. في حين أن الكل يُدلي بدلوه، ولا نظن أن الأمر سيتوقّف يومًا. لكن جل ما أردناه هو إضافة صورة جديدة، وربما هو تعقيد آخر للصورة الشائكة التي هي عليها الآن. لكنها إضافة على مستوى كبير من الأهمية، وهو سؤال مطروح دائمًا على الصعيد الإبداعي بالأخص.

في عام 1880، كتب الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، "أبو الحداثة الشعرية العالمية" كما يسميه البعض، في ديوانه "فصل في الجحيم" وفي قصيدته الموسومة "وداعًا"، هذا البيت الشعري: "يجب أن تكون حديثًا بشكل مطلق". 

الإضافة المهمة في هذا البيت تكمن بالطبع في قوله "بشكل مطلق"، أي أنه لا يكتفي بالحداثة فقط، بل يريد أن يتجاوزها إلى شكل آخر هو المطلق. وكما نعلم، كتب رامبو قصيدته هذه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي قبل قرن ونصف، وهو في ذلك الوقت لم يكن يسعى إلى تلك الحداثة العادية، إذا أمكن تسميتها بذلك، بل كان طموحه ذلك المطلق. 

يصحُّ لنا أن نسأل الآن: ما هي هذه الحداثة المطلقة التي ينشدها رامبو؟ بالطبع رامبو، "الطفل المعجزة"، كتب قصائده بين طفولة مبكرة 11 عامًا، وفتوة لم تتجاوز الـ 19 عامًا، عندما أقفل كتاب الشعر وترك فرنسا والأدب ومضى يتاجر في أفريقيا وعدن. 

وبعد مواكبة طويلة لحياة وشعر آرثر رامبو، يفهم المتابع لهذا الشاعر الفذ ومراحل سيرورته الحياتية والشعرية، بادئ ذي بدء، الدرس الأول الذي يفرضه على قارئه، وهو أنه عاش منذ سنواته الأولى بشاعرية متفجرة تتجاوز عمره وعمر الشعر في أيامه، بالرغم من أن تلك كانت من أخصب فترات الشعر الفرنسي والعالمي. شعرية جرفته مثل نهر عارم، وصار هو جزءًا منها، لا العكس، إلى أن انطفأت بعد سبع سنوات، لا أكثر، كان خلالها رامبو الصغير هو الشاعر والقصيدة معًا. 

وعندما انطفأت القصيدة، انطفأ الشاعر معها وتحوّل إلى إنسان عادي. صار تاجرًا للبنّ والجلود وحتى الأسلحة. تاجرٌ لا ماضي له في الشعر، ولا يريد لأحد أن يذكره به. هذه حقيقة ربّما يعرفها كثيرون. لكن ما معنى كل ذلك؟

 الحداثة المطلقة هي التي لا تفصل الشاعر عن الشعر، فالشاعر هو قصيدته والقصيدة هي شاعرها

أليست هي الحداثة المطلقة؟ أي الحداثة التي لا تفصل الشاعر عن قصيدته، ولا الروائي عن روايته، ولا التشكيلي عن لوحته. الحداثة التي لا تحوّل النص إلى منصة يصدر عنها المبدع ليعبّر عن آرائه وممارساته في الحياة والسياسة وسواها. ألا يقدّم رامبو بحياته التي امتزجت بحروفه نموذج الشاعر الحديث المطلق، وما عداه يمكن أن يكون حديثًا في الشكل أو في المضمون أو في الغرابة؟

كل هذا موجود ومتاح، لكن الحداثة المطلقة هي التي لا تفصل الشاعر عن الشعر، فالشاعر هو قصيدته والقصيدة هي شاعرها. وهذه العودة إلى رامبو وسيرته اليوم، تكشف اللثام عن حقيقة ضرورية وملحّة، وهي أن الشاعر هو كل أشكاله كما كان الشعر كل أشكاله. 

حقًا كان رامبو، كما وصفه النقاد، "زلزالاً" شعريًا، ورائدًا لحداثة لا تحدُّها الأسوار.