03-نوفمبر-2017

تشارلز بوكوفسكي

تمكّن الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي من خلق مكانة مهمّة لهُ أدبيًّا، إن كان ذلك على صعيد المشهد الأدبيّ الأمريكيّ أو العالميّ، وإن كان ذلك أيضًا قد حدث في مرحلة متأخّرة من حياته، إلا أنّها كانت كافيَّةً لتأسيس نموذج شعريّ حديث تفردّ وتميَّز به تشارلز بوكوفسكي عن بقيَّة شعراء جيله في تلك المرحلة، رغم بساطته وقلّة جمالياته.

يتكئ تشارلز بوكوفسكي في صناعة قصيدته على الواقع اليوميّ المُعاش

في المختارات التي نقلها إلى اللغة العربيّة المترجم السوري زياد عبد الله تحت عنوان "محترقًا في الماء، غارقًا في اللهب: قصائد مختارة 1955-1973" (منشورات المتوسط، 2016)؛ ثمّة مساحة جديدة للتعرّف على تشارلز بوكوفسكي في شخصيّاته المتعدّة، ولعلّ آخرها شخصيّته كشاعر.

اقرأ/ي أيضًا: تشارلز بوكوفسكي: شجارات بالأيدي تنتهي بالرصاص

يتكئ تشارلز بوكوفسكي في صناعة قصيدته على الواقع اليوميّ المُعاش، إذ أنّ الأحداث اليوميَّة هي من تصنع أو تؤسس قصيدته، وتشكّل أهم الركائز التي تقوم عليها، بالإضافة إلى أسلوبه البسيط ولغته المخفّفة والمفردات، وأيضًا محاولاته في تفسير أو تبيين نتيجة كلّ حدثٍ أو لحظة يوميّة، إن كان ذلك بعين الواقع أو الخيال: "خطوات إلى ردهةٍ مظلمة/ صاحبة البيت واقفة هناك/ ممتعة وحازمة/ ترسلني إلى جهنم/ ملوّحةً بذراعيها المكتنزتين المتعرقتين/ وتصرخ/ تصرخ الإيجار/ لأنّ العالم فارق كلانا" ص (16).

محترقا في الماء غارقا في اللهب

يعتمد تشارلز بوكوفسكي على المواربة والتبطين في تمرير أفكاره داخل القصيدة، بالإضافة إلى التلاعب المقصود في إيقاعها، ناقلًا القارئ من فكرةٍ إلى أخرى، ولكنّها في النهاية مرتبطة جميعها في نصٍّ واحد، وتبدو، بالنسبة للقارئ، فكرةً واحدةً وواضحةً، ولا تتطلّب منه الالتفات إلى ما هو مبطّن ومخفيّ: "دائمًا سيكون هناك مال وعاهرات وسكيرون/ إلى آخر قنبلة/ لكن كما قال الله/ واضعًا رجلًا على رجل/ أعرفُ أني خلقت الكثيرَ من الشعراء/ لكن/ القليلَ من الشعر" ص (18).

تعمل قصيدة بوكوفسكي على تجنّب إحداث فجوات بينها وبين القراء، حيث ينتقل بعضها من الهمّ الذاتيّ إلى العام، متحدّثة عن الذين يشاركونها همًّا وحدثًا معيّنًا، يتمثّل، بالدرجة الأولى، في حالة التشرّد التي عاشها وجرّبها الشاعر شخصيًّا، بالإضافة إلى التهميش والوجود في موقع يكون الإنسان فيه منسيًّا، وبذلك، يلامس تشارلز بوكوفسكي بقصائده المخففة من ثقل البلاغة اللغوية، ما هو داخليّ لمن يشاركه تلك الهموم والأحداث: "دائمًا يضحكون/ حتى لو سقط/ لوحٌ من الخشب/ وحطَّم وجهًا/ أو شوَّه جسدًا/ يتابعون الضحك" ص (48).

اشتغل تشارلز بوكوفسكي على أن تكون قصيدته دنيوية وأكثر قابلية للتصديق

وفي نصٍّ آخر يقول: "عاش في حيّنا/ كنّا نتكلم عنه حين نملّ/ ومن ثمّ ننتقل إلى شيء مسلّ أكثر/ نادراً ما غادر بيته/ كنّا نرغب في تعذيبه/ لكن أباه/ الذي كان ضخمًا مريعًا/ عذّبه لنا" ص (126).

اقرأ/ي أيضًا: بوكوفسكي.. وحشُ الكتابة لا يزال يتكلم في قبره

يبدو واضحًا أنّ تشارلز بوكوفسكي كان يعمل على تطوير لغته وأدواته الشّعريّة، ولكنّ ذلك لم يمنح قصائده جماليةً أو فنًّا بقدر منحها واقعيةً أكثر قابليةً للتصديق، ومنطويةً على دلالات تحيل القارئ إلى البحث في حياة الشاعر الشخصيّة بدلًا من تفكيك أو محاولة فهم القصائد ذاتها، إذ أنّ بوكوفسكي تعمد أثناء كتابته الخلط بين شخصيّة المتشرّد السكّير وشخصيّة الشاعر الناتجة عن تلك الشخصيّات، والتي أوكل صاحب "أدب رخيص" إليها مهمة التقاط اللحظات وتحويلها إلى قصائد، بينما يقع على عاتق الشخصيّات الأخرى عيش تلك اللحظات وتجريبها في محاولة لكتابة، كما ذكرت، قصيدةً أكثر واقعيّة وفاعليّة: "الأوقات العصيبة على عاتقنا جميعًا/ فقط/ لم أكوَّن عائلة/ لأرسلَ إلى هارفارد/ أو لأشتري أرض صيد/ لا أطمح بالكثير/ فقط/ أحاول البقاء حيًّا/ لمدةٍ أطول قليلًا" ص (64). وفي نصٍّ آخر يقول أيضًا: "معلق قلبي بمسمار/ تذيبُ قلبي الشمس/ أنا ابن عمّ الأفعى/ وأخاف قطرات المطر/ أخاف النساء والجدران الخُضر" ص (139).

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أجمل نساء المدينة": فانتازية بوكوفسكي

تشارلز بوكوفسكي.. الكتابة بالجسد