23-فبراير-2016

احتجاجات للمعلمين في الضفة الغربية(صورة أرشيفية/عصام الريماوي/ الأناضول)

*إلى معلمي ومعلمات الكرامة الأحرار في أنبل حركة نقابية عرفتها فلسطين،
الذين وجّهوا بصمودهم صفعة لكل من تآمر على حقوقهم.
 

خلال نقاشاتي مع بعض الأصدقاء الصيف الماضي، كنت أتحدث دائماً عن نمو متزايد لكتلة حرجة من الفلسطينيين، أو حد أدنى منهم، من هؤلاء اللذين سئموا الألاعيب الفصائلية في شتّى القضايا، من أعلى المستويات السياسية حتى ظروفهم المعيشية المباشرة، وخاصة بعد حدوث ما يسمى "الانقسام". كنت أَلْمَحُ في الأجيال الجديدة الصاعدة نزوعاً أكبر نحو تجاوز التصنيفات الفصائلية الجاهزة، وتعاملاً أكثر وعياً وموضوعية من أجيال تكبرهم عمراً وخبرة، وهي مفارقة تعد مثالاً يستطيع الناس تلمسه اليوم بأيديهم، بعدما سمعوا كثيراً من التنظير حول أثر تعاقب الأجيال على أوضاع الجماعات، لدى تعلمهم قصة نبي الله موسى وتيه بني إسرائيل لأربعين سنة. ورغم أنّ بعض أصدقائي كانوا يرون أني أبالغ، ورغم أني لا أدعي أني كنت فعلاً واثقاً تمام الوثوق من توقعاتي التي لم أستند فيها إلى إحصائية ما أو دراسة نشرها مركز دراسات إجتماعية ما، إلا أني كنت أستمتع بإطلاق مصطلح "ما بعد الفصائلية" على الأمر.

ثم بدأت انتفاضة القدس الخريف الماضي، ولعل أكبر تجليات "نظرية ما بعد الفصائلية" التي كانت تختمر في عقلي منذ زمن، هي الوصايا العشر لأحد شهداء هذه الإنتفاضة، والتي تصدرتها عبارة: "أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي فموتي كان للوطن وليس لكم". كان هذا تعبيراً صارخاً ومباشراً عن حالة الإحباط والسأم وفقدان الأمل بالفصائل الفلسطينية، التي تحول معظمها إلى شبكات متنفذين تواطأت مصالحهم على سحق الناس العاديين، والعاديين هنا تعني الجميع بما فيها القواعد الشعبية للفصائل التي لا شيء أدل على حالة الترهل التي وصلت إليها من ملاحظة أن غالبيتها لا يتطلب الانتماء إليه سوى تعبئة استمارة انضمام، لا تكاليف ولا تضحيات ولا أثمان ستدفع كضريبة للانتماء للفصائل التي تدعي جميعاً السعي للتخلص من الاحتلال، بل على النقيض تماماً من منطق الخسائر والأثمان فإن المكاسب حاضرة بقوة وملموسة على واقع المنزل والأثاث والسيارة المركونة على مدخل "الفيلا"، ولكم بالتالي أن تتخيلوا أي معادن الناس ستجتذب هذه الفصائل بهذه الشروط المغرية للانضمام إليها!

اقرأ/ي أيضًا: السلطة الفلسطينية تقدم درسًا دكتاتوريًا للمعلمين

ثورة المعلمين.. شباط الكرامة

يدخل الآلاف من المعلمين في الضفة الغربية، في إضراب هو أكبر وأنبل حركة نقابية عرفتها فلسطين على الإطلاق وهو مظهر من مظاهر "ما بعد الفصائلية"

نعيش هذه الأيام مظهراً جديداً من مظاهر "ما بعد الفصائلية"، يدخل الآلاف من المعلمين في الضفة الغربية، هذه الأيام، في إضراب شامل في أكبر وأنبل حركة نقابية عرفتها فلسطين على الإطلاق. آلاف من المعلمين، نسبة كبيرة منهم من غير المنتمين لأي من الفصائل الفلسطينية، بالإضافة إلى المحسوبين على الفصائل الفلسطينية بما فيها حركتي فتح وحماس، يسيرون على قلب رجل واحد سعياً نحو تحقيق حزمة من المطالب التي يجمعها خيط واحد، عنوانه الكرامة ولا شيء آخر. يؤكد المعلمون بوعي كبير تحييد مطالبهم "قدر الإمكان" عن السياسة وحساباتها، وأقول قدر الإمكان لأن ما يقوم به المعلمون هو في الحقيقة شئنا أم أبينا، مظهر فيه من السياسة ما يكفي من دون إضافة صلصة الفصائل المفضلة المسماة "الانقسام"، فكل الثورات الشعبية التي عرفها العالم يمكن اختزال محركها الأساسي بمطالب الناس المسحوقين، كرامتهم ولقمة عيشهم، وكانت دائماً صراعاً بين الغالبية المسحوقة (المعلمين قي هذه الحالة) والأقلية المستحوذة على النفوذ والمصالح الاقتصادية (الحكومة والاتحاد)، من الثورة الفرنسية إلى ثورات الربيع العربي اليوم.

ورغم صعوبة الإحاطة بالظلم الواقع على المعلمين في فلسطين، إلا أني سأحاول التطرق لبعض مظاهره سريعاً، ولعل أبرز مظاهره اغتصاب حق المعلمين في انتخاب ممثلين لهم، لا شأن لهم بالفصائل والسياسة مطلقاً، بل كل همهم فقط رعاية مصالح العاملين في المهنة التعليمية والعمل على نهضة قطاع التعليم العام في فلسطين، فالمعلمون يرون ألا إمكانية لتطوير مهنتهم أو انتزاع حقوقهم في ظل وجود ما يسمى الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين المعيّن من قبل الحكومة، وهم محقون بذلك، فهذا الاتحاد الذي تستحوذ عليه "الكوتة" الفصائلية، ويدعي تمثيل المعلمين في الوطن والشتات رغم أن مسرحية التزكية الصورية تُجرى فقط داخل فلسطين، هو عبارة عن مجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الذين تضمن الحكومة تلاعبها بهم وسكوتهم عن حقوق المعلمين بالترقيات والدرجات وغيرها، وبهذا يمكن تفسير تمسك الحكومة بهذا الاتحاد الذي يتمسك اليوم رئيسه بمنصبه على طريقة القذافي أو أي دكتاتور عربي آخر، رافعاً شعار أنا أو الطوفان، واصفاً المعلمين بالشرذمة المتآمرة على الاتفاق "التاريخي"، الذي أبرمه مع الحكومة وفق ما تشاء الأخيرة وترضى!

يدرك المعلمون بالمنطق الرياضي الذي يعلمونه لطلابهم، وبالموضوعية والمهنية وغيرها من الشعارات التي تزخر بها المناهج بين أيديهم، أن لا علاقة لتشكيلة هذا الاتحاد ووجوده وارتباطاته بالمبادئ الأساسية للمهنية والاحترافية ومبادئ دولة المؤسسات، التي سئم المعلمون والفلسطينيون عموماً السماع عنها في السنوات الأخيرة في الإعلام المفروض على فضائهم السمعي والبصري، من النوع الذي يُباع ويُشترى، فلا يمكن إقناع أي مُنصف أن الانتماء الفصائلي لرئيس وأعضاء اتحاد المعلمين هو شيء ذو صلة بمسألة التعليم من أي وجه من الوجوه! بل على العكس، في السياق المؤسساتي، من المفترض أن مسألة كهذه، في حال توفرت أساسيات النزاهة والموضوعية، ينبغي أن توصف بأنها "غير ذات صلة" أو "irrelevant"، أو كما يقول المثل غير النخبوي: "شو دخل طُز بمرحبا"! ولكن الفصائل التي استمرأت التعامل مع كل شيء، بما فيها دماء الفلسطينيين وشهدائهم، ككعكة ينبغي الحرص على الحصول على النصيب الأكبر منها، لن ترى في شأن المعلمين ما يمكن استثناءه من منطق التعامل هذا!

يؤكد المعلمون في الضفة الغربية، بوعي كبير، حرصهم تحييد مطالبهم "قدر الإمكان" عن السياسة وحساباتها

من مظالم المعلمين الأخرى والتي تمثل النتيجة الطبيعية لوجود "اتحاد الدمى" غير المنتخب وغير الشرعي، أنهم يتقاضون راتباً أساسياً لا يتجاوز الألفي شيكل شهرياً، مع أن موظفي القطاع العام في الوزارات الأخرى وهم أيضاً من حملة شهادة البكالوريوس، يتقاضون رواتب أساسية أكبر من ذلك بكثير، عوضاً عن فتح أفق الدرجات والترقيات والعلاوات لهم وإغلاق مثيلاتها في وجه المعلمين! فعلى سبيل المثال، يتقاضى المهندسون والأطباء علاوات طبيعة عمل ومخاطرة تتراوح نسبتها بين 90- 200% من الراتب الأساسي، كما لا تقل هذه النسبة عن 55% لدى موظفي الوزارات الأخرى مثل الحكم المحلي والصحة، في حين أن اتفاق الاتحاد المعلن لا يقر إلا صرف 2.5% كنسبة علاوة طبيعة عمل! طبعاً هناك الكثير من التفاصيل الإدارية التي ينبغي على المعلمين التأكيد عليها وتسليط الضوء عليها بشكل أكبر للرأي العام، وأعد القارئ أنه سيقف مشدوهاً من حجم الظلم الواقع على هذه الفئة كلما أجرى مقارنة بسيطة مع نظرائهم من موظفي القطاع العام في الوزارات الأخرى.  

وﻷن المعلمين انتفضوا من أجل كرامتهم، فإنه يجدر التطرق لإحدى أهم القضايا التي تمسها، وهي تجريد الوزارة المعلمين من كل أدوات حمايتهم والدفاع عنهم في حال وقوع إشكالات بينهم وبين الطلاب، كما يحدث عادة عندما يتواجد في مدرسة ما مجموعة من الطلاب "المتنمرين"، ممن يستقوون، ويا للمصادفة، بآبائهم المتنفذين فصائلياً أحياناً أو قوتهم العضلية في أحيان كثيرة أخرى، ليمارسوا البلطجة على زملائهم ومعلميهم إن لزم الأمر، فوزارة التعليم المهووسة بإرضاء المانح الأوروبي، تحرص على التأكيد على تجريم ضرب الطلاب بل وحتى ممارسة ما تسميه "العنف اللفظي" ضدهم، وهو ما يبدو جميلاً وأخلاقياً للغاية، ولكن المفاجأة أنها تقوم بالتوازي مع ذلك بتجريد المعلم من كل الأدوات الإدارية والقانونية "السلمية" التي يمكن للمعلمين من خلالها الدفاع عن أنفسهم!

توزع الوزارة، بين حين وآخر، على المعلمين كتيبات توضح بعض عقوبات "جرائم" الطلبة، يكفي لأخذ انطباع عن "قسوتها" القول إن عقوبة شرب الطالب للمشروب المُسكر داخل أسوار المدرسة قد لا تتجاوز فصله منها لعشرة أيام وفقاً لهذه الأنظمة!! هذا بالإضافة إلى إلغاء مجالس الضبط، وإلغاء عقوبات النقل التأديبي حتى في حالة إهانة المعلمين لفظياً أو حتى ضربهم جسدياً، وهنا أتحدث عما جرى ويجري فعلياً في كل مدرسة، إذ تبدو الاستراتيجة المفضلة لمديريات التربية والتعليم هي "الطمطمة واللفلفة" في كل مشكلة تحدث بين معلم و أحد طلابه، أو معلم ومسؤول إداري عنه.

يحول الموضوع أحياناً إلى لجان تحقيق لا تقوم بشيء فعلياً، وفي أحيان كثيرة أخرى إلى محاولة استرضاء المعلم ليتنازل عن حقه في استرداد كرامته على طريقة العشائر و"حق العرب" وتقبيل اللحى، وكم من مظلومين سقطوا ضحايا لهذا "المنطق"، وكم من معلمين تم جرّهم إلى مخافر الشرطة بطريقة مهينة، في حال أرادوا الانتصار لكرامتهم التي ستضيع بين "حانا ومانا"، كالعادة! ورغم أنه من المفترض أن يكون المعلمون ووزارتهم في مركب واحد، فإن مسؤولي الأخيرة بارعون في بيع الكلام المعسول، ويحرصون دائماً على الظهور على وسائل الإعلام وهم يمارسون الحنان الأبوي مع الطلاب، في مزايدة رخيصة على المعلمين، فتبدو صور الطوابير الصباحية مبهجة ومسؤولو الوزارة "يقرصون" بحنان خدود الطلاب، وهو أمر محظورٌ على المعلمين بالمناسبة لأسباب واضحة وأؤكد لكم أنه لا يندرج ضمن مطالبهم الحالية، ولكن الرسالة التي تصل لآلاف اليافعين والقُصّر من الطلاب أن الوزارة معهم وتقف في صفهم ضد المعلم الشرس البغيض، وهو بلا شك "يقوّي عيون" المتنمرين من الطلاب على معلميهم!

إذا كانت استراتيجية المسؤولين المفضلة هي الذهاب إلى كل شيء.. السلم و"الحرب"، الدولة والاستقلال، العودة والقدس، مع الافتقار لأدوات تحصيل كل ذلك، فليس من حقهم إلزام المعلمين باستراتيجيتهم الفاشلة تلك، بتركهم مجردين من جميع الأدوات الإدارية والقانونية الكفيلة بحمايتهم من فسوق القلة القليلة من طلابهم، أو من كل ما من شأنه النيل من كرامتهم، والتقليل من شأنهم في نظر المجتمع!

جردت وزارة التعليم الفلسطينية المعلمين من كل أدوات حمايتهم والدفاع عنهم في حال وقوع إشكالات بينهم وبين الطلاب

وكالعادة، عادة أي سلطة تحس بخطر الجماهير المطالبة بحقوقها يكاد يداهمها، يُتّهم المعلمون الذين لم يطالبوا سوى بحقوقهم المباشرة وعلى رأسها حقهم في انتخاب ممثلين حقيقيين لهم بدل اتحاد الدمى المفروض عليهم، يُتّهمون بالخيانة الوطنية والسعي لتقويض نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وربما التسبب بمشاكل الاستيطان وجرائم الاحتلال في قتل الفلسطينيين كل يوم، إذًا هي ذات الأسطوانة المشروخة التي يحبها المسؤولون في الفصائل الفلسطينية، فالاحتلال و"الوطن" و"النضال" و "الانتماء" ودعم "المشروع الوطني" كلها مصطلحات يتقن الناطقون الإعلاميون رصفها لتعبئة بياناتهم المتعلقة بكل شيء، من مشروع تكرير مياة عادمة ممول أوروبياً إلى مشروع شق طريق ريفي في الأغوار الشمالية.

تبدأ الحكومة من خلال ماكينتها الإعلامية بالتحريض على المعلمين، والترويج لما تسميه الاتفاق التاريخي مع الاتحاد غير الشرعي، ثم تستعمل بالتعاون مع الاتحاد غير الشرعي أداة الفصائل المفضلة لقمع الناس في الضفة وغزة، وهي تهمة الانتماء للفصيل العدو في الطرف الآخر، وتمارس الحكومة هذه الأداة في البدء باعتقالات لمعلمين قد يكونون محسوبين على فصيل معين، لجرّ المسألة إلى مربع الانقسام الذي يمثل "منطقة الأمان" أو "comfort zone"، والمساحة المخصصة لسحق كل المطالبين بحقوقهم! يكثر ترديد كلمات مثل "أجندات خارجية، دحلان، مؤامرة على الصمود، وغيرها"، في محاولة لكبت المعلمين وتخويفهم. ثم يبدأ نشر الشائعات، ومحاولة تأليب الأهالي بإظهار أن المعلمين لا يهتمون بمصلحة الطلاب، رغم أن المعلمين يؤكدون أنهم سيعوضون الطلاب عن كل دقيقة فاتتهم حال تحصيل حقوقهم.

ولأن المعلمين طالما شكّلوا الحلقة الأضعف، فقد تجرأ حتى أشباه الصحفيين الذيين يطلون ناعقين من منابر لم يُعرف عنها يوماً الانحياز لهموم الشعب، ليتطاولوا على المعلمين، ويثيروا الفتن والنعرات ويطعنوا في مصداقية امتحان "التوجيهي"، أحد الأشياء القليلة المحافظة على مصداقيتها في فلسطين، وكل تلك أفعال تستوجب الملاحقة القضائية في بلد يحترم نفسه. ثم تخرج بعض الأصوات الخسيسة مطالبة بفصل المعلمين المضربين واستبدالهم بآخرين، أما الأكثر خسة فهم المزايدون ممن يدعون الاستعداد "للتطوع" لتدريس الطلاب بدلاً من المعلمين! ناهيك طبعاً عن بعض فئات المهنيين المعروفين بجشعهم وطمعهم مجتمعياً، ممن أرادوا اكتساب نقاط في "الوطنية" والتضحية على حساب المعلمين، وهم من كانوا يضعون حياة الناس على المحك، وليس تعليمهم فقط، في إضراباتهم النقابية سابقاً! ولا تكتمل الحفلة بدون مشاركة المساجد، مآذنها ومنابرها، في التسويق لرواية الطرف الأقوى ظاهرياً، الأضعف فعلياً أمام  مطالب المعلمين النقابية البحتة، والتي لا يشوب استحقاقهم لها شائبة!

اقرأ/ي أيضًا: التنمية والتعليم في فلسطين.. المنهج استعماري!

مجالس الطلبة والمجالس القروية والبلدية.. مأساة متكررة!

وُجهت اتهامات للمعلمين في الضفة بالخيانة الوطنية والسعي لتقويض نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وغير ذلك من التهم

ظاهرة إدخال السياسة في كل شيء في فلسطين لا تقتصر على النقابات المهنية، بل تمتد بشكل طبيعي لمجالس الطلبة في الجامعات. فبدلاً من أن تكون هموم مجالس الطلبة متعلقة بمطالب الطلاب المباشرة حصراً، لتفويت الفرصة على الفصائل والأحزاب لتحقيق مصالحها على حساب غالبية الشعب المسحوق، تُمارس اللعبة ذاتها. ففي الوضع الطبيعي، ينبغي أن تنحصر اهتمامات حملات القوائم الطلابية المترشحة لمجالس الطلبة في الجامعات حول زيادة عدد المحاضرين، تخفيض الأقساط الفصلية، زيادة المنح الجامعية، إثراء المكتبات بالمراجع، وحتى مستوى جودة وأسعار الطعام المقدم في الكافتيريا والإستراحات الجامعية، ومن غير المفهوم، أو يبدو الأمر مرة أخرى غير ذي صلة، أن تتضمن المناظرات الخطابية عشية الانتخابات استعمالاً، أقل ما يمكن وصفه بالرخيص وغير النبيل، لصواريخ المقاومة في الدعاية الانتخابية، ومن أجل ماذا؟!

من أجل التنافس على مقاعد في مجلس طلبة لا يتجاوز تأثيره في الواقع أبسط هموم الطلاب ومشاكلهم! ولكن الفصائل قاتبة تنظر للجامعات كخزان متدفق للموارد البشرية، لخلق أجيال جديدة من القيادات الطلابية، التي تفتض بكارة أمانتها ونزاهتها وتتعلم أصول الاسترزاق والاستبضاع والمتاجرة السياسية في سنين دراستها الجامعية، بالإضافة إلى التطبيل والتزمير للفصيل أكثر من أي شيء آخر! وكمثال بسيط، فإن بعض هذه المجالس الطلابية بلغت بها اللامبالاة بمصالح الطلاب حد إقرار الإضرابات سنوياً من أجل التفاوض مع إدارات جامعاتهم، لتمرير بعض مصالحهم الخاصة كتعيين أحد معارفهم في الجامعة، حتى لو كان ثمن ذلك رفع الجامعة للأقساط الجامعية على جميع الطلاب، وهم بطبيعة الحال مستثنون من هذا الرفع بحكم المنح التي يحصلون عليها للبقاء في الجامعة، لسنين تتجاوز مدد الدراسة الإعتيادية، لكل سبب ممكن عدا تفوقهم الأكاديمي!

ظاهرة إدخال السياسة في كل شيء في فلسطين لا تقتصر على النقابات المهنية، بل تمتد بشكل طبيعي لمجالس الطلبة في الجامعات

ذات الأمر ينطبق على البلديات والمجالس القروية، فبدل أن يستلم أمرها نظيفو اليد من الناس من الحريصين على مصلحة مدنهم وقراهم، بغض النظر عن انتمائهم السياسي، وبتحييد كامل للشأن الفصائلي، تجد أن من الممكن لشخص دون أي مؤهلات أكاديمية، يتمكن من خلال ارتباطاته وعلاقاته الحزبية من الإنتقال من مستوى العمل كسائق عمومي، إلى موظف بلدي مرموق لا يكف عن ارتياد أرقى المطاعم لاستضافة الوفود الشقراء والحمراء، أو تجده يحزم حقيبته كل شهر أو اثنين مسافراً كسائح لتلك المدينة أو القرية الأوروبية التي وقعت إتفاقية توأمة مع مدينته أو قريته الفلسطينية! لم يعد ممكناً ونحن نعيش عالم اليوم، وفي الوقت الذي تُشاور بعض الحكومات في العالم شعوبها وتستفتيها في شأن إبرام صفقات السلاح، أن نظل نربط مشروع تعبيد شوارع قرية صغيرة بالفصيل الذي ينتمي إليه رئيس البلدية!!   

على الفلسطينيين أن يدركوا أن ثمة مساحات كبيرة من البؤس في حياتهم، مما لا علاقة له بالاحتلال، كما أنه بؤس لا يستثني أحداً منهم تبعاً للفصيل الذي ينتمي إليه، بؤسٌ مُجمعٌ عليه إنسانياً، ولا علاقة له بالأيدولوجيا أو الدين أو العرق أو لون البشرة. ومن بداهة القول تذكير الفلسطينيين عموماً والمعلمين خصوصاً أن صاحب البقالة أو الصيدلية أو الجزار لا يسأل عن انتمائهم الفصائلي ليمنحهم تخفيضات خاصة في الأسعار، كما أن الفصيل الفلاني أو الحزب العلاني لا يسدد عنهم أقساط القروض أو أقساط أبنائهم الجامعية. كما أن على المجتمع أن يدرك أن المعلمين الآن يناضلون بالنيابة عن الجميع، ويستهدفون بهذا الحراك النبيل استعادة كرامة الإنسان الفلسطيني ومبادئ العدالة والحرية والنزاهة المسحوقة في طاحونة الحسابات الفصائلية.

كما يجب على الأهالي دعم حراك المعلمين، لأن أي تحسين في ظروف المعلمين سينعكس إيجاباً على المستوى التعليمي بشكل عام، فمن نافل القول أن أي جهد يهدف لتحسين مستوى العاملين في أية مهنة يبدأ بتحسين ظروفها المادية لاجتذاب أفضل الكوادر والطلاب الجامعيين للعمل فيها، وأما سنفونية ضياع الجيل التي يعزف عليها البعض، فهي أسمج من الرد عليها وكأن المعلمين لا يوجد لهم أبناء يقلقون على دراستهم أيضاً! وتذكروا أن المتنفذين لا يسمح لهم كبرياؤهم بأن يرسلوا أبناءهم للمدارس الحكومية، فهم يرون أن مستواهم ومستوى أبنائهم أرفع من مشاركتكم ومشاركة أبنائكم في أي شيء، بما فيها همومكم الحياتية والوطنية. كما أنّ على المعلمين المنتمين فصائلياً، والذين يتلقون الآن دعوات للانسحاب من الحراك والانتظام في الدوام، أن يتذكروا جيداً أنهم يتشاركون من الهموم مع زملائهم المعلمين، ما هو أكبر بكثير مما يتشاركونه من هموم مع قياداتهم الفصائلية، إن كان ثمة هم مشترك معهم أصلاً!

اقرأ/ي أيضًا:

تلاميذ تونس..بين ضغط النقابات وقرارات الوزير

صيف الجزائر.. نقاش بـ"العامية"