08-أبريل-2025
لقطة من مسلسل معاوية

لقطة من مسلسل معاوية (مواقع التواصل/ الترا صوت)

لكثرة ما شاهدنا وسمعنا وقرأنا، عبر شاشات التلفزيون وفي مواقع التواصل الاجتماعي، عن مسلسلات رمضان الفائت، بات الواحد منا بحاجة إلى وقفة طويلة معها. أما وقد وقفنا، وإن كانت وقفةً متأخرة، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن التسلية وسط جنازة مفتوحة قد تكون الوصف الأنسب لهذه المسلسلات.

ففي الوقت الذي بُثّت فيه، ولا تزال، المجازر في غزة على الهواء مباشرةً، وتوالت الأخبار الصادمة من السودان، عدا عما شهده الساحل السوري من انتهاكات وصلت إلى حد المجازر، كانت هذه المسلسلات تستحوذ على اهتمام الناس بشدة لدرجة أنها كانت محور نقاشاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. لكن ما غفل عنه معظم المتناقشين، المنشغلين بالصراع على الشاشة بين النجوم، هو أن الصراع هذه المرة كان بين الدراما والواقع نفسه.

اعتدنا، في كل موسم رمضاني، أنْ نكتب أنّ الدراما العربية عاجزة عن التعبير عن الواقع ومجاراة اللحظة. لكن هذا العجز لم يكن كما هو الآن في أي موسم رمضاني سابق على الإطلاق. كتب زياد بركات، في تقرير نُشر على موقع "التلفزيون العربي"، أن التلفزيون لم يكن في هذا الموسم في الميادين، ولم تكن الحكاية في الحبكة، وإنما في مشاهد القصف ووجوه الأطفال تحت الركام.

بانتهاء الموسم الدرامي، لم تُطوَ الحكايات على الشاشة فقط، بل انهارت معها أسطورة أن الدراما التلفزيونية قادرة على مجاراة الحياة

هذا مشهد مضطرب انتقل فيه كثير من المشاهدين العرب من موقع المتفرج الذي كان ينتظر في العادة أن تتوالى أحداث الحكاية، إلى شخص ينتظر النجاة ويتساءل، بين لحظة وأخرى، إن كانت ستكون ممكنة بعد دقائق، دقائق قليلة فقط.

وسط هذه المفارقة، تشكّلت خريطة درامية مضطربة لم تستطع الأعمال التي شكّلتها، بمحاولات بعضها الجادة لتقديم شيء ما، والسقطات الفنية والتكتيكية التي اتسمت بها أعمال أخرى، أن تقدّم شيء ما، أو أن تُعيد رسم ملامح دراما رمضان بطريقة مغايرة لناحية التعامل مع الواقع الذي باتت أكثر انفصالًا عنه من السابق. والنتيجة أن ما بدا موسمًا تقليديًا بات مع الوقت موسمًا كاشفًا للذوق والأيديولوجيا والعلاقة الملتبسة بين الفن والسلطة والسوق والجمهور.

معاوية.. التلفزيون أداة تطييف

قد يكون مسلسل "معاوية" أكثر المسلسلات التي يجب التوقف عندها هذا الموسم، لا لأنها الأفضل وإنما لأنها الأكثر إثارةً للجدل، إن لم تكن الأكثر فشلًا. إذ إن العمل جاء، رغم ميزانيته الضخمة والترويج المكثف له بقصد أو من دون قصد، خلال المواسم السابقة؛ مفككًا لا يعبّر عن فشل مشروع درامي، وإنما عن فشل مشروع تطييف الماضي لإدارة الحاضر.

ولذلك، بدت محاولة المسلسل تقديم ما يمكن وصفه بـ"سردية وسطية" لتاريخ شديد التوتر والطائفية شديدة الانفصال عن الواقع، وعاجزة تمامًا عن صنع سردية وقادرة على ترميم فجوات الوعي الجماعي.

تجاهل المسلسل وصنّاعه أن الواقع في العالم العربي مشحونٌ بالتوترات الطائفية، وأن تقديم سردية وسطية لتاريخ مليء بالتوترات الطائفية والمذهبية لن يكون ضربًا من العبث فقط، بل انفصالًا عن الواقع. وفي ظل ما أثاره المسلسل من جدل، لا سيما في العراق حيث أخذ بُعدًا طائفيًا بحتًا، يمكن القول إن الأموال لا تضمن نجاح السردية المقدمة، ولا تصلح فجوات الوعي الجمعي المتعلقة بقضايا شديدة الحساسية مثل الطائفية. بل إنها، وعلى العكس تمامًا، قد تؤجج الانقسامات إذا لم يُقدّم العمل بطريقة تُراعي هذه الحساسيات، وتأخذ بعين الاعتبار التعقيدات التاريخية والاجتماعية المرتبطة بالوعي الجمعي.

هزيمة الخيال أمام الواقع

ارتبكت الدراما أمام الواقع الذي فرض إيقاعه هذا الموسم، فالمشاهد الذي يرى طفلًا يُنتشل من تحت الركام، وهو مشهد يتكرر يوميًا، لن يتفاعل مع مشهد خيانة زوجية في مسلسل! ولذلك، في زمن المجازر العلنية والكاميرات التي تبث المذبحة مباشرةً، هُزم التلفزيون أمام النشرة الإخبارية.

ينطبق ما سبق على المسلسلات التي حاولت أخذ مسافة من الدراما الشعبية من خلال تقديم دراما بصرية حساسة وتفاصيل داخلية عميقة، مثل "قلبي ومفتاحه" و"إخواتي". أرادت هذه المسلسلات تقديم مشهد مغاير، واعتمدت على الإيقاع البطيء واللغة الرمزية والمشاهد المركبة. لكنها، مع ذلك، لم تستطع مجاراة الواقع من جهة، والخروج من الأُطر النخبوية الضيقة من جهة أخرى. هكذا ظلّت محصورة ضمن شريحة معينة من الجمهور ومنفصلة تمامًا عن الواقع.

في المقابل، حافظت الدراما ذات الشخصيات النمطية التي تتمحور حول بطل أو أكثر، على جمهورها رغم أنها، مثل سابقتها، منفصلة عن الواقع، وهذه مفارقة تثير تساؤلات لا تنتهي. فبينما فشل النوع السابق في جذب الجمهور، هيمنت مسلسلات مثل "إش إش" و"فهد البطل" على المشهد في الموسم السابق، سواء من حيث الانتشار والتأثير، على الرغم مما تحمله من اختزال وتبسيط مخل للواقع الاجتماعي. والخلاصة أن التجريب خسر أمام الواقع والجمهور، في حين أن النماذج التجارية لا تزال قادرة على المنافسة.

لام شمسية وحدود خطاب الإصلاح!

يتفق كثيرون على أن "لام شمسية" كان العمل الدرامي الأشد فرادة في رمضان. تناول العمل موضوعًا حساسًا، بل واحدًا من أكثر التابوهات حساسية في المجتمع العربي: التحرش الجنسي بالأطفال. وإلى جانب موضوعه الاستثنائي، كُتب المسلسل بعناية، وصوِّر بحساسية عالية، وابتعد بشكل كامل عن الابتذال أو الإثارة المجانية من خلال تقديمه سردًا إنسانيًا تعامل مع الألم بصمت واحتواء. لكنه، رغم ذلك، تعامل مع الجرح من الخارج دون الغوص في بيئته أو منظومته.

قدّم المسلسل خطابًا نقديًا متماسكًا، لكنه ظل مراقبًا ومحدودًا. قدّم نفسه بوصفه عملًا دراميًا نظيفًا مقننًا لا يتسخ بالواقع كما هو، بل يحاول إصلاحه بلغة رمزية ومضبوطة، غير أن شخصياته لم تفلت من قبضة المثال الأخلاقي، ولم تنتهي قصتها إلى صدام حقيقي مع المجتمع الذي بدا في المسلسل، في لحظات كثيرة، وكأنه قابل للإصلاح بلطفَ!

بل إنه ظهر، في مشاهد كثيرة، كأنه يطلب الإذن من المجتمع قبل أن يواجهه، ويكتفي كذلك بالإشارة بدل الاقتحام والمعالجة، خاصةً أن قضايا العنف الأسري والتحرش والانتهاك الجنسي باتت تُطرح بجرأة وقوة في مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، وعلى نحوٍ دام وفاضح. هكذا، يضعنا العمل أمام تساؤلات كثيرة، لعل أهمها: هل تكفي النوايا النبيلة وحدها لإحداث أثر؟ أم أن مواجهة المجتمع تتطلّب كسرًا أكبر للأشكال، وليس مجرد تنميق للمضامين فقط؟

بانتهاء الموسم الدرامي، لم تُطوَ الحكايات على الشاشة فقط، بل انهارت معها أسطورة أن الدراما التلفزيونية قادرة على مجاراة الحياة. في هذا الموسم، تجاوز الواقع الخيال، وصار أكثر شاعرية حين يُروى من تحت الركام، وأكثر عنفًا من أي حبكة، وأشد تعقيدًا من أي سيناريو متخيّل. وبينما تتحول هذه المسلسلات إلى مجرد ذكرى مع الوقت، يبقى المشاهد العربي عالقًا في حكاية أكبر تُكتب على عجل، وتصوّر تحت القصف، بأبطال مجهولي الأسماء لا يملكون سوى الصبر والأمل.