تراث مصر تحت الحصار: حكاية مبادرات مجتمعية قاومت سياسة الهدم
10 يوليو 2025
في مناخ ما بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، ازدهرت مبادرات تهتم بالحِفاظ على تراث الأماكن، وكان من أبرزها مبادرة "أنقذوا الإسكندرية – Save Alex"، التي ظهرت للنور في مارس 2012، على أيدي نشطاء مُهتمين بالتراث العُمراني وأساتذة العمارة. في ذلك الوقت، كانت الوقفات الاحتجاجية واحدة من سُبل الاحتجاج ضدّ هدم الأماكن التراثية.
كان إحساس الناس بمدينتهم واحدًا من إيجابيات ثورة كانون الثاني/يناير، كما يقول دكتور محمد عادل دسوقي، مؤسس شريك بالمبادرة وأستاذ مساعد للهندسة المعمارية في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا. وهو ما استدعى ظهور المبادرة إلى النور، فضلًا عن زيادة إقبال الناس على جولات التوعية بالأماكن: "كُنا نرى أناسًا لأول مرة معنا، كان أحدهم يملأ سيارة بالأوراق عن الإسكندرية، بينما يتناول آخرون منشوراتنا ويوزعونها في كل مكان".
رغم أحاديث السياسة المُنتشرة في ذلك الوقت، اقتصرت مناقشات الفاعلين في المبادرة حول تاريخ المدينة وتراثها، "لأن كان بيحصل وقائع هدم عديدة لأماكن تراثية"، فيما يعتقد أستاذ الهندسة المعمارية أن وقائع الهَدم ربما تكون رغبة سياسية، لإلهاء الناس بها بدلًا من إقامة مظاهرات احتجاجية تطالب بالحقوق.
قامت هذه المبادرة بعددٍ من الوقفات الاحتجاجية أمام فيلا عفيفي وقصر عبود وغيرهما، لمنع الهدم. تلك الوقفات أُقيمت تحديدًا بين عامي 2014 و2015، لكن في النهاية استمر نزيف الهدم، إذ كان هناك قرارًا صادرًا من وزارة الإسكان، التي يرأسها في ذلك الوقت المهندس إبراهيم محلب، بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 2013، بحذف نحو 15 مبنى من سجل المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز.
وبدافع من حمى المبادرات المُجتمعية التي ظهرت بعد الثورة، تأسست مبادرة "أنقذوا المنصورة" في تشرين الأول/أكتوبر 2013، لمواجهة التعديات على المباني التراثية، كما انتشرت الفكرة في عددٍ آخر من محافظات مصر.
كان الاحتكاك بمؤسسات الدولة جزءًا أصيلًا من تلك المبادرة، مثل القيام بالوقفات الاحتجاجية في الإسكندرية، إلا أن ذلك الطابع السِلمي من الاحتجاج دفاعًا عن المباني التراثية اختفى بعد مدة. فظهر شكل آخر من الاهتمام بالتراث، وهي الجولات، أي المشي في المدينة للتعرف على تاريخها. كانت من بينها مبادرة "تعالوا نعرف مصر" لصاحبتها ندى زين الدين، التي تأسست في آذار/مارس 2014.
كان الاحتكاك بمؤسسات الدولة جزءًا أصيلًا من تلك المبادرة، مثل القيام بالوقفات الاحتجاجية في الإسكندرية، إلا أن ذلك الطابع السِلمي من الاحتجاج دفاعًا عن المباني التراثية اختفى بعد مدة
تأسست المبادرة، كما تقول ندى، بهدف التعرف أسبوعيًا على الأماكن غير السياحية والنمطية مثل شارع المُعِزْ وقلعة صلاح الدين، "عشان الناس تغيّر نمط خروجاتها ومتقتصرش على الأماكن السياحية"، كما ذهبت أيضًا إلى خارج القاهرة: "كنت حابة الناس تتعرف مثلًا على قلعة صلاح الدين الأيوبي في طابا، وقلعة القصير في القصير".

لم تقم ندى بذلك كهاويةٍ فقط، بل يرجع ذلك الشغف إلى حصولها على درجة الماجستير في الجغرافيا من آداب القاهرة وتمهيدي دكتوراه في ترميم الآثار من الجامعة ذاتها: "مع حصولي على ماجستير الجغرافيا، تغيّرت رؤيتي للأماكن، وازداد وعيي بقيمة المكان".
ومن بورسعيد ظهرت مبادرة "بورسعيد على قديمه"، إذ قدَّم المهندس المعماري، محمد حسن، أولى الجولات التعريفية عام 2014، وذلك بعد أن اكتشف عدم معرفة كثيرين بعيد إنشاء المدينة في 25 نيسان/أبريل عام 1859، والتي ضُرب فيها أول معول لحفر قناة السويس: "كان المعروف فقط العيد القومي لبورسعيد في 23 كانون الأول/ديسمبر، ذكرى الانتصار على العدوان الثلاثي".

يتذكر حسن حتى الآن حجم الإقبال على تلك الجولات المنطلقة من المنطقة التي بدأ عندها إنشاء مدينة بورسعيد: "أطلقنا دعوات في المدارس والجامعات، وفوجئنا بحجم الإقبال، وقتها لم تكن المعلومات المتوفرة عندنا كثيرة".

ازداد عدد الجولات التعريفية مع الوقت، ولم تقتصر على شكلها التقليدي في التمشيات، إذ بدأت المبادرة في عمل عروضٍ فنية داخل أماكن تراثية بغرض إحيائها، من بينها فيلا فرناند وشارع أبو الحسن في حي العرب، أحد أقدم الشوارع في بورسعيد: "أحببنا تقديم تعريف وتوعية بالأماكن التراثية بدون ملل".

يستدعي حسن من ذاكرته أوائل من قاموا بجولاتٍ تعريفية، ويحكي: "رأيت رجلًا فرنسيًا من نشطاء جمعية الثقافة الفرنسية يُعرّف الناس بتاريخ المدينة، وشعرت بغيرة شديدة"، متسائلًا: "نحن أبناء المدينة، فكيف لا نعرف عنها شيئًا؟". كان واحد من أهم أسباب تأسيس مبادرة "بورسعيد على قديمه" السمعة السيئة التي تلطّخت بها بورسعيد بعد مذبحة كرة القدم الشهيرة بإستاد بورسعيد في شباط/فبراير 2012، وبسببها ظلت المدينة تعاني من ركود على مدار أعوام: "وأصبحت المدينة مهملة، لذلك تعاونّا مع جمعيات مهتمة بالبيئة والفن، بجانب التوعية بالمدينة".
مع الوقت تطورت المبادرة أيضًا، ولم تقتصر فقط على التعريف بتراث الأماكن، بل تواصلت مع المؤسسات الرسمية للحِفاظ على أماكن هامة، منها حديقة فريال التي كانت مهددة بإنشاء جراج سيارات أسفلها، وهو ما تراجع عنه بعد ذلك المحافظ اللواء عادل الغضبان، بعد ضغوط من البرلمان والمجتمع المدني. وفي عام 2020 قدمت المبادرة دراسة تاريخية لحديقة فريال التي شهدت حفل افتتاح قناة السويس عام 1869: "في ذلك الوقت، وقفت نقابة المهندسين ونحن كمبادرة ومنظمات أخرى ضد القرار، وأعددنا الدراسة، واستجاب المحافظ".
وتحولت الحديقة في الوقت الحالي إلى مصدر جذب سياحي، وقامت المحافظة بتطويرها وعمل نموذج مُحاكاة لحفل افتتاح قناة السويس بداخلها. تعاونت أيضًا المبادرة في تطوير مناطق عديدة أخرى، منها شارع فلسطين، وتحديدًا في تطوير الممشى السياحي المُطِل على مَجرى قناة السويس: "أُزيل جزء من الممشى السياحي وتحول إلى ساحة مشاة كبيرة، وأصبحت مساحة عامة يستطيع الناس الجلوس فيها بالمجان".
وقامت المبادرة أيضًا بالعديد من المشروعات الأخرى، منها توثيق تاريخ السمسمية، كما تعمل حاليًا على إحياء حي العرب القديم الذي تغفل عنه المؤسسات الرسمية وتتعامل معه بإهمال رغم قدمه: "اسم المشروع هو (فين في العرب)، ومن خلاله سننظم ورشًا وجولات تعريفية ودروس طبخ للأكلات الشعبية".
اللافت للنظر في مبادرة "بورسعيد على قديمه" أنها تحولت إلى شركة، حتى تضمن الاستمرارية، فيما تهدف لتحويل الأنظار إلى بورسعيد كمكان سياحي: "لا نرغب بالحديث عن تاريخ المدينة فحسب، والإهمال الذي تتعرض له، بل نحاول إحياءه". بجانب ذلك، تقوم المبادرة أيضًا بترميم الأماكن التراثية، مثل فندق "آكري بالاس"، وقد كان مغلقًا لعشرين عامًا. كما تعمل الآن على ترميم شقة تراثية لإقامة هوستيل.
قامت المبادرة أيضًا بالعديد من المشروعات الأخرى، منها توثيق تاريخ السمسمية، كما تعمل حاليًا على إحياء حي العرب القديم الذي تغفل عنه المؤسسات الرسمية وتتعامل معه بإهمال رغم قدمه
على مدار 11 عامًا، شهد حسن بنفسه تغير وعي الناس تجاه بورسعيد تدريجيًا، فحاليًا تُروج المطاعم للأماكن التراثية على مواقع التواصل الاجتماعي لجذب المستخدمين، فيما ثمّن حسن القانون الصادر في 24 شباط/فبراير الماضي بتحديد ارتفاعات المباني بأربعة أدوار: "سيدفع القانون مالك المبنى التراثي للتفكير ألف مرة قبل هدمه، لأنه لن يستطيع بناءه كبرج".
لم تنشأ جهود المبادرات الحالية من فراغ، كما يعتقد دكتور الدسوقي، فقبل عام 2011 كانت هناك مبادرات شخصية ثم جماعية، إذ لا ينسى أستاذ الهندسة المعمارية جهد دكتور محمد عوض، المحاضر بكلية الهندسة والمهندس المعماري، في التوثيق للتراث المادي للإسكندرية. قام دكتور عوض بتأسيس قائمة التراث العمراني للمدينة في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وكانت أول قائمة تراث بين المدن المصرية، وعندما صدر قانون الحفاظ على التراث عام 2006، كان هو المشرف الأساسي عليه. كما كان له دور في الحفاظ على عدد من الأماكن التراثية من التخريب، على رأسها ساحة المتحف اليوناني الروماني الحالية.

ارتكزت جهود دكتور عوض على مخاطبة صُناع القرار. فمن بين المبادرات الجماعية التي يتذكرها دسوقي، كانت "أيام التراث السكندري" التي انطلقت عام 2010: "لكنها أقامت أحداثًا موسمية فقط وليست أسبوعية كما الحال الآن". ولم ينسَ دسوقي أيضًا جهود دكتور عادل أبي زهرة الذي وقف ضدّ هدم العديد من المباني السكنية، على رأسها منزل الأديب البريطاني لورانس داريل (صاحب رُباعية الإسكندرية)، والذي هُدم بعد ذلك عام 2017، كما وقف في وجه هدم حدائق الشلالات، وقام برفع دعوى على المحافظة. ولا تزال قائمة حتى الآن، لكنها تعاني من الإهمال.
التواصل مع الناس وربطهم بالتراث في شكله الحالي انتشر مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، كما يذكر دسوقي، فيما يعتقد أن الخوف على تراث الإسكندرية تحديدًا نابع من خوفهم من غرق المدينة. وهي إحدى المصائر التي تهددها بسبب تغير المناخ: "ولا يظهر ذلك الخوف في شكل المبادرات فقط، بل من خلال الأعمال الفنية والشِعر، من بينها قصيدة شهيرة لكفافيس ودراما مثل مسلسل الراية البيضا".
ويؤكد دسوقي أن الجيل الحالي مهتم بتاريخ وتراث المدينة، إذ توجد فجوة معرفية لا توفرها كتب الدراسة ووسائل الإعلام: "وللأسف المادة متناثرة ما بين مصادر مختلفة وبلغاتٍ متعددة، ومهما توفر العديد من كتب فإن رؤية العين البشرية مهمة". كما لفت الانتباه إلى أن ميزة المبادرات الحالية هي التواصل مع الناس العاديين، وليس النُخبة: "بالطبع توجد جمعيات أخرى، لكنها كانت مقتصرة على فئة النُخبة".
في الألفية، برز أفراد مثل المستشار في السياحة البيئية والجيولوجية وائل عابد، الذي نَظّم رحلات توثيق بيئي وثقافي إلى أماكن مثل الجلف الكبير والوادي الجديد، كما يذكر الكاتب علاء خالد، صاحب مجلة "أمكنة" المَعنية بثقافة المكان. وفي رأيه أن تلك التجارب أضافت قيمة حقيقية، إذ تمكن عابد بالتنسيق مع مؤسسات الدولة من تحويل الجلف الكبير إلى حديقة وطنية.

ويتفق خالد مع الدسوقي في أن تلك المبادرات الفردية قبل الثورة كانت بمثابة نقطة تحول: "وأيقظت في الشباب رغبة في إعادة اكتشاف بلدهم"، كما أعادت إليهم قيمة الأماكن المحلية، ويضيف خالد أن المبادرات الجماعية انتشرت، كذلك فكرة الرحلات الجماعية خارج المدن، مدفوعة بحماسة المعرفة والانفتاح على تجارب جديدة. لكن في رأيه، أصبحت الرحلات أحيانًا سطحية، تركز على المتعة اللحظية بدلاً من الغوص في عُمق التجربة.
مع تغير آفاق المناخ السياسي داخل مصر بعد عام 2013، تجمدت أنشطة "أنقذوا الإسكندرية" بعد سنواتٍ، خاصة أن عددًا من الفاعلين بها كانوا من النشطاء السياسيين. ولم تعد الوقفات الاحتجاجية لأي سبب كان مقبولة، خاصةً بعد صدور قانون تنظيم الحق في المظاهرات السلمية بتاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، حيث يقول دسوقي إنه سافر بعد ذلك: "وظهر جيل ثانٍ، قاموا بمجهود عظيم وبطريقة أكثر لُطفًا، مثل إقامة حفلة داخل الترام، إلا أن القلق اعترى مؤسسات الدولة منهم، وانتقلت الدفة إلى شباب أصغر سنًا، لكنهم لم يمتلكوا الحماس ذاته لدى السابقين".
مع تغير آفاق المناخ السياسي داخل مصر بعد عام 2013، تجمدت أنشطة "أنقذوا الإسكندرية" بعد سنواتٍ، خاصة أن عددًا من الفاعلين بها كانوا من النشطاء السياسيين. ولم تعد الوقفات الاحتجاجية لأي سبب كان مقبولة، خاصةً بعد صدور قانون تنظيم الحق في المظاهرات السلمية
"سيف أليكس بنت المناخ الذي ظهرت فيه، لذلك اختفت"، يقول الدسوقي مُستعرضًا نمط المبادرات القائمة الآن أمثال: "سيرة القاهرة" و"سيرة الإسماعيلية" و"سيرة الإسكندرية" وغيرها. فتلك المبادرات لا تقوم على الصِدام مع السلطة: "حاملو اللافتات غير مُرحَب بهم"، فيما تعتمد على الجولات التعريفية وإقامة الندوات، وإصدار الكُتيبات، وحماية الأماكن التراثية أيضًا. فمبادرة "سيرة الإسكندرية" أعلنت عن تحويل منزل سيد درويش إلى متحفٍ بالاتفاق مع الورثة.
التعرض إلى هدم المباني التراثية ليس حكرًا على مصر فقط، لكن تختلف مظاهره في الخارج، ففي أوروبا على سبيل المثال، تتعرض المباني إلى الهدم أحيانًا: "لكن ليس بنفس الكثافة عندنا"، يقول دكتور ميشيل حنا، كاتب مهتم بتوثيق التراث العُمراني المصري.
خلال الفترة التي سافر فيها الدسوقي إلى الخارج، تعرّف على مجموعات من النشطاء المهتمين بالتراث في فرنسا، وعلم بوجود مبادرة تحت اسم "إس أو إس باريس" أو أنقذوا باريس، ويحاول النشطاء من خلالها وقف هدم المباني أيضًا. ويذكر الدسوقي معرفته بإحدى الحوادث الشهيرة؛ إذ تعرض مبنى "ليه فريجوس" - وهو عبارة عن غرف تبريد أُنشئت عام 1921 وتقع في الدائرة الثالثة عشر بباريس، إلى الهدم أكثر من مرة، إلا أن فناني باريس قاموا باستئجار المبنى حفاظًا عليه، وحولوه إلى أستوديوهات للرسم. ورغم محاولات بلدية باريس لهدمه أكثر من مرة، فقد نجح الفنانون في الحفاظ عليه حتى الآن: "ومع ذلك تحاول البلدية كل فترة رفع قيمة الإيجارات عليهم".

وعند سؤال حسن عمّا يشغل بال المعماريين في الخارج، قال ضاحكًا إن الأمر مختلف في هولندا، ففي إحدى المحاضرات التي كان متواجدًا بها كانوا يتساءلون حول الكيفية التي سيتركون فيها بصمتهم المعاصرة كمعماريين، في حال قامت الدولة بترميم جميع المباني!
بجانب أساتذة العمارة والمهندسين المعماريين المهتمين بالتراث، بدأ دكتور ميشيل حنا الكتابة والاهتمام بالتراث عبر مدونته الشخصية التي أنشأها عام 2005، حيث كتب فيها عن تاريخ الأماكن التراثية وقطع الأشجار والتغيرات التي تطال القاهرة. بجانب ذلك كان مشاركًا في مبادرة "تراث مصر الجديدة"التي تحولت بعد ثورة كانون الثاني/يناير إلى جمعية هليوبوليس للتراث. اهتمام حنّا بالتراث لم يكن فريدًا، بل متأثرًا بكتابات محيي الدين اللبّاد في مجلة "صباح الخير" عن أهمية الحفاظ على الذاكرة البصرية للمُدن: "تعلمت من كتب اللبّاد كيف أرى المدينة"، مشيرًا إلى أن الوعي بتاريخ الأماكن كان موجودًا دائمًا، لكنه كان محصورًا في أوساط محدودة.

تاريخيًا، لم يكن تدمير التراث ظاهرة حديثة. في الأربعينيات، كادت منطقة خان الخليلي أن تُهدم لولا تدخل حكمدار القاهرة آنذاك، توماس راسل باشا، الذي أنقذها من قرار وزارة الأشغال. كذلك، تعرضت قلعة قايتباي لمحاولات هدم جزئية قبل ترميمها، ولولا تدخل ماكس هرتز باشا، رئيس لجنة حفظ الآثار العربية، لما ظلت قلعة قايتباي قائمة إلى الآن، ويعكس هذا التاريخ الطويل من الهدم غياب سياسات فعالة للحفاظ على التراث.

اليوم، تفاقمت الأزمة مع هدم أحياء بأكملها، مثل مثلث ماسبيرو الذي تحول إلى أبراج سكنية، مع خطط لهدم مناطق أخرى مثل بولاق وإمبابة. الاهتمام بالتراث ليس حكرًا على مصر، ففي لندن، برزت مبادرة "أنقذوا لندن" للحفاظ على التراث العمراني. لكن في مصر، يبدو الدمار أكثر ضراوة، حيث تُهدم أحياء بأكملها دفعة واحدة: "في الخارج قد يهدمون مبنى، لكن هنا نهدم أحياء بالبلدوزرات"، يعلّق حنا. رغم بطء التقدم، يتزايد الوعي بأهمية التراث شيئًا فشيئًا. لكن العلاقة مع الدولة ظلت شبه معدومة قبل وبعد 2011. المبادرات المجتمعية، رغم شغفها، تصطدم بجدار من اللامبالاة الرسمية، على رأسها ما يحدث من استمرار هدم المقابر التاريخية بمنطقة الإمام الشافعي: "التراث مكتوب في الدستور، لكن الدولة غائبة تمامًا"، إذ تنص المادة رقم 50 بالتزام الدولة بالحفاظ على تراث مصر الحضاري والثقافي، المادي والمعنوي.