ما الذي يستطيع أستاذ جامعي اليوم أن يعلمه لطالب جديد؟ مقارنات سحيقة القدم لا يمكن لإدراك الطالب الشاب أن يستوعبها. المدرّسون والكتّاب الذين يناقشون قضايا راهنة، اجتماعيًا وثقافيًا والأرجح سياسيًا، ينطلقون من مسلمات كونهم عاشوا في عصر يختلف عن العصر الذي يعيشون فيه مع طلابهم اليوم. في عصرهم البائد، وهو قريب العهد زمنيًا، كانوا يقرأون كتبًا مطبوعة، ويسامرون أصدقاءهم في المقاهي والملاهي والبارات والحانات، وإن أرادوا إجراء محادثة ما مع صديق عليهم أن يلتقوا به في حديقة أو في صالون البيت أو ربما على طاولة مقهى. كل هذا لم يعد له أثر اليوم. الخارج أصبح ممرًا إجباريًا نحو داخل ما. الجيل الجديد لا يخرج من غرفه إلا مضطرًا. وحين يخرج فإنما كما يخرج الجيل الذي سبقه لزيارة حديقة الحيوان، أي أن الخروج يبدو مخططًا ويشبه رحلة استكشافية. الأماكن التي في الخارج لا تمت لهذا الجيل بأكثر من صلات عابرة، وهم يدبرون أمور حيواتهم من داخل غرفهم، فيها يأكلون ويتعلمون ويعملون ويشربون ويعشقون. وهم في تدبيرهم هذا إنما يخرجون الأمكنة من الخدمة، ويضعونها على رف الأدوات المهملة. الجغرافيا التي تحيط بهم ليست مهمة أيضًا، ما دام التيار الكهربائي مؤمنا وخدمة الإنترنت متوافرة، فليس ثمة حاجة لمواجهة صقيع الشتاء وحر الصيف في الخارج. العالم يبدو أساسًا بالنسبة لهم ثابت الحرارة ومكيفًا على النحو الذي يرغبون به ولا يزعجهم.
المدرّسون والكتّاب الذين يناقشون قضايا راهنة، اجتماعيًا وثقافيًا والأرجح سياسيًا، ينطلقون من مسلمات كونهم عاشوا في عصر يختلف عن العصر الذي يعيشون فيه مع طلابهم اليوم
كثيرون من الكتّاب الذين يتناولون أحوالًا راهنة، وتنتشر أبحاثهم في جامعات اليوم، يعلنون أن التقنيات الحديثة أفقدتهم القدرة على التركيز. كانوا يقرأون بسرعة أكبر وتركيز أشد من قبل أن يتغوّل غوغل في ميدان المعلومات، وكثيرون يعلنون أن هذه التقنيات تجعل الجيل الجديد أقل ذكاء على كل المستويات. لكن أحدًا منهم لا يكلف نفسه عناء التفكير بأن الجيل الذي يخاطبه، ويعتقد أنه يعلّمه، لم يختبر ذلك التركيز الشديد، وهذا الذكاء الأحدّ. لقد ولدت هذه التقنيات قبل مولدهم، والعالم بالنسبة لهم لا يعقل من دونها. والحال، هل صحيح أن هؤلاء الأساتذة يعلمون طلابهم شيئًا؟ أم أن هؤلاء الطلاب يقرأون ما يُفرض عليهم في مناهج الجامعات بوصفه ضربًا من الخيال الذي لا يمكن اكتناه معناه وحرارته؟
هذه الملاحظات وكثير غيرها تضع جامعات اليوم في محنة لا سابق لها. لا شيء يمكن أن يعلمه الأساتذة لطلابهم. لا شيء مفيدًا على وجه التحديد. ومع ذلك فإن هذه الجامعات، المرهقة ماليًا لطلابها وذويهم، تدّعي أنها ما زالت تعد الجيل الجديد لقيادة المستقبل. في حين أن كل ما تعلمه لطلابها لا يتعدى امتداح التاريخ القريب والاعتراض على التاريخ الجديد. كما لو أن الجامعات التي صنعت على مدى قرون احتمالات المستقبل، أصبحت اليوم أسيرة ماض لا تستطيع الفكاك منه، وتجهد في البقاء حية إنما على هامش الحياة وما يجري فيها حقًا.
صناعة المستقبل اليوم تقع تمامًا في الجهة المعاكسة للجهة التي تقع فيها الجامعات. ومع أن الجامعات ما زالت تملك سلطة على فرض منطقها على الجيل الجديد أثناء سنوات دراسته فيها، إلا أنها تبدو لهذا الجيل بلا فائدة على الإطلاق. كل ما تعلنه أو تدلي به لا يتعدى نصيحة باهتة: تذكروا أجدادكم أيها الطلاب.