29-يناير-2019

من ملصق فيلم قطار الليل إلى لشبونة

شيء ما، مُبهر وشهيّ مُرابط في ذهني وأنا مستسلمة لأشعة الشمس، لتُغازل بشرتي الحنطيّة وتقتات من رغبتي الطافحة في ضمّها أكثر، عسى أن يخترق جسدي دفء الظهيرة في هذا اليوم الذي يتّخذ رنة مدوية ومجهولة.

إنه شعور مُبهج، يجعلني أرغب في التقاط سيلفي لوجهي المُشع وأصافح ظلّي الراقص، وأنا أجلس قُبالة البحيرة على مقعد رخاميّ متهالك يَجلِده الضوء، ولا أهبه لضوضاء الشارع، ولا لجوقة العمَلة أثناء أشغالهم في بناية قريبة.

لفح وجهي نسيم فاتر وأنا أرفعه وأنظر للعالم بنصف إغماضة، ثم تنفّست الهواء المُشبع بالرطوبة ملء رئتيّ.

لقد اعتدت أن أستحضر مقاطع من يومياتي مرة تلو الأخرى، أحيانًا بدون إثارة تُذكر ولا سبب مُقنع! كمن يستجدي في أعماقه سرًّا عسى أن تطفو تلك الاسئلة المُهملة وصوتي المكتوم داخلي. إنها تزدحم في رأسي وتدغدغ ذاكرتي.

تطلّعت إلى ساعتي بشكل خاطف لكنني لم التقط الوقت، لقد سيطر عليّ هاجس، انتشلني من مكاني فصار ظهري باردًا وأطرافي مُتحفزة كأنها تشمئز من لدغة ما، ونظري يمتد بشكل ضائع في الأفق الرحب.

إنه الخوف من أن تظلّ حياتي غير مكتملة. يَصعُب عليّ ان أصنّفها! أكاد لا أطيق فكرة الفشل وأنا ذات تطلُعات نهِمة ولم أنظر أبدًا إلى القعر، لكن أفتقد إلى متانة ما، ككومة ملابس أستند إليها على أرضيّة الواقع حتى لا يتهدّل وعيي وينساق إلى متاهة غير مسبوقة.

منذ وقت قريب، اقتطعت تذكرة إلى فيلم "قطار الليل إلى لشبونة" لبسكال ميرسيه. كنت سمعت عنه الكثير من سمر، أختي الصغيرة المُغرمة بالسينما. أتذكر أنها أرهقتني بثرثرتها المعتادة وهي تسترجع مشاهد من الفيلم. وانتظرت ليومين حين نفذت التذاكر في قاعة "زفير" بضاحية المرسى بعد أن علّقت بوستر الفيلم في واجهة المركز الثقافي.

لكن اختفت التذكرة يوم العرض وضاعت مني وأنا العن حظّي العاثر. بعدها قرّرت أن اقتني الرواية بما أنها مٌتوفرة بالمكتبات وصدرت عن إحدى دور النشر.

هذه المرّة، غَلّفت رأسي غشاوة من الكلمات وأنا استقلّ قطار الرواية في تنقيب عن حيوات وأسباب غامضة، لكنها مُلحة عن هذا العالم بكل تجلياته...

كنت في غرفتي، وقد بدأت أشعر بألفة بيني وبين ذاتي الحائرة حين انصاعت اللحظات المفقودة مني إلى أعماقي المُبهمة، وسَرت في جسدي رعدة مباغتة وأنا اقرأ كلمات أماديو دو درادور، الطبيب والثائر البرتغالي التي جعلت بطل الرواية موندوس يترك العالم الرتيب وراءه ويستقلّ قطارًا ليليًّا نحو لشبونة، وأنا أجلس على السكّة الحديديّة في ذلك العراء الخالي، لكنّ يده شدّتني بقوّة ليصحبني معه في رحلته، فتقودني بسحر فائض لا مردّ له وأصرخ بأعلى صوت: لقد وجدت تذكرتي الضائعة!

 

اقرأ/ي أيضًا:

قطار الرابعة وخمس عشرة دقيقة

حين تغدو الذاكرة ملاذًا